الجمعة، 5 فبراير 2021

تازْمامَّرْت .. تازْمامَوْت-14-

 تازْمامَّرْت .. تازْمامَوْت




ولد عزيز بنبين بمراكش سنة 1946 . عاش مخضرماً؛ يجمع بين المدرسة الفرنسية الحديثة والمدينة العتيقة في مراكش، وبين صرامة الأدب الحديث ومتخيَّل الحكاية الشرقية. أمضى عشرين سنة رهينَ السجن، سلخَ منها ثمانية عشرَ في معتقل تازمامَّرت.
فقد أُقحِم الضابط الشاب في المحاولة الانقلابية التي دارت وقائعها في قصر الصخيرات يوم 10 يوليوز 1971، ثم قُدم إلى محاكمة تعسفية، ليُلقَى به في المعتقل العسكري الرهيب، الذي نبت يومها في قلب الصحراء المغربية...
لقد أقبِر صاحبنا طوال عقدين من الزمن، في زنزانته رقم 13، التي لم تكن تزيد عن قبو إسمنتي بسعة مترين على ثلاثة. لا تطرقه عليه غير العقارب والأفاعي والرتيلاءات والصراصير. وظل المعتقل الشاب يكابد مصيره، كسيزيف وكأنتيغون. وظل يتسلح بإيمانه على مغالبة ذلك الجحيم، الذي يؤثثه العذاب والجنون والموت، ليس له فيه من وسيلة للاتصال بالحياة غير السمع، فجعل يكرس نفسه لرفاقه في المأساة، ويجعل من نفسه لهم حكاءً أو بائع أحلام...
ويعود عزيز بنبين، ههنا، ليرفع هذا القبر المؤلم الممض من الكلمات، تمجيداً لكل واحد من إخوته ضحايا تازمامرت. ويضع شهادة نفيسة عن كابوس سجني حديث. إنها قصة تضرب عميقاً في أغوار الطبيعة البشرية، وتشحذ قوة الإيمان والخيال الفائقة في مواجهة الوحشية الكاسرة.
توقفت الشاحنات. كانت الشمس قد طلعت. وكان الجو عليلاً، وهمني خاصة أننا قد انتهينا من ذلك الطواف العصيب. فكان بمقدورنا أن نستمتع بفيض تلك اللحظة، كما يستمرئ المعذبون لحظة الاستراحة؛ حين يخف عنهم نير الجلاد.
أمسكت بي أذرع قوية، وأنزلتني من العربة. لكن استحال عليَّ أن أنتصب على قدمي، أو أسير لوحدي. فجعل أحد الحراس ساعده تحت إبطي، وسحبني نحو مأواي الجديد. فمشينا متئدين، وكنت لا أزال لم أتخلص من آلامي وانفعالاتي. اجتزنا حواجز من ردهات وأدراج، ثم انتهينا إلى المكان المراد. فأزال عني الدركي قيودي، ونبهني إلى أننا سنجتاز باباً. ثم قادني إلى الداخل، وقال لي :
- انتبه، فستجلس فوق سرير.
ثم أطلقني. وقد أحسست حينها بالحشية تحت عجيزتي، لكني سقطت، فجأة، في الفراغ. فصعدت أحشائي إلى بطني، وأوشك قلبي يتوقف، كمثل المظلي الذي يقذف بنفسه لأول مرة من الطائرة. ثم توقفت السقطة، وبدأت أصعد إلى السطح. فأزال الحارس عني عصابتي، فإذا بي في قاعة كبيرة مضاءة، نقية بيضاء. كنت أقتعد سريراً، سريراً حقيقياً، ليِّن المفرش، من شدة ليونته حتى لقد خيل إليَّ أنني أسقط في الفراغ.
عندما انصرف الحراس، لبثت في ذلك القصر، وأنا أتميز من التعب والإجهاد، لكن حواسي كانت متنبهة، وكنت أرتوي من النور، وأتشبع من الأوكسجين، وأتقلب في النقاء، ويغمى عليَّ في سريري، فأتأمل الزاوية حيث يقوم المرحاض ومغسلته وكرسيه النقي، وتلك النوافذ الكبيرة الخالية من قضبان.
قدمت لنا وجبة لم تكن....، بل كانت بفتيك مقلياً، وقليل من المرق، وحساء مركز، وخبزة مذهبة، وتفاحة وياوورت، لم تكن بالوجبة الباذخة، لكن لم يكن ليعادل في تلك اللحظة، يعادل تلك الوليمة. وكان لنا الحق، كذلك، في دش ساخن بالصابون، وعلى الرغم من أنه كان قصيراً، فلقد كان نفعه علينا أكبر من شتى الأدوية التي كان الحق فيها. فأحسستني كالإنسان الجديد، قد اغتسلت من كل ما نابني من تلك السنوات، بما حفلت من أهوال وعذاب ودموع. وأحاطت بنا مجموعة كبيرة من الأطباء من مختلف التخصصات. وما جاؤوا ليعالجونا. وإنما جاؤوا ليرمموا شروخنا، ويجعلونا في هيأة لائقة إذا وقعت علينا الأنظار حينما يفرج عنا، وليتداركوا المظاهر، في بلد كل ما فيه مظاهر في مظاهر.
كان لنا الحق، كذلك، في العرض على طبيب للأسنان؛ وقد كنا فقدنا معظم أسناننا، وبعضنا فقد أسنانه كلها. فكانت فرصة لي للخروج من غرفتي. كانت عيادة الطبيب توجد في سيارة تقف أمام بنايتنا، وسط ساحة تشرف على الجرف الهائل المحاذي للمدرسة. وقد جعلوا سياراتهم المدنية والعسكرية من حول تلك الساحة، لتكون ستاراً يحجب عنا المنظر الطبيعي، ويمنعنا أن نتعرف على المكان الذي كنا فيه، وكذلك لدفع النظرات المتطفلة التي يحتمل أن تأتي من الخارج. ولأول مرة أخرج منذ أن كان اعتقالي، من غير عصابة ولا أصفاد.
فتملكني انفعال شديد وأنا أرى في الخلفية جبل بويبلان تغمره الثلوج، وينيره شمس الربيع الحارة، فكأنه ينبثق من الفراغ الهائل الذي كنت أخمنه خلف حاجز السيارات ذات الأشكال المستقبلية؛ وأخالني أنظر إلى عربات فضائية، وخيل إلي لبرهة أنني في كوكب غير الكوكب. لكني سرعان ما عدت إلى الواقع، لدى رؤيتي رجال الدرك المسلحين، وهم يفحصونني بفضول، كأنما ينظرون إلى حيوان غريب، أو ينظرون إلى بقايا إنسان من عهد ما قبل التاريخ.
دخلت عيادة يغمرها الضوء، نقية، وطاهرة، ومنظمة. كان الطبيب يلتمع بمثل ما تلتمع سيارته. فنظرت كالمسحور إلى أصابعه النظيفة، وأظافرة المقلمة القصيرة، وجلده الأشبه بالشفاف، من شدة النقاء. كان يتحدث، ولم أكن أسمعه. فقد تجمعت حواسي كلها في عينيَّ، المائجتين بجماع تلك الحياة. وإذا أيد تمسك بي في رقة، وترفعني. آه! نعم! لقد انتهت الحصة. فنهضت بطريقة آلية، وفجأة توقف الزمن. فإذا كل شيء من حولي قد تجمد. كنت أقلب بصري مرآة، مسحوراً، مبهوراً بتلك النظرة القادمة من الغيب، وتينك العينين الزائغتين اللتين كانتا تتفرَّسان فيَّ. فلمنْ كانت تانك العينان؟ ومن أين جاءتا؟ فكرت لبرهة في نظرة فان غوغ، لا وألف لا، فما كان جنوناً؛ لقد كان شيئاً آخر، شيء أبعد من الجنون. ثم تحررت من تينك العينين، لأحدق في وجه شيخ لاقيت عنتاً كبيراً في التعرف عليه، وتقبله. ذلك كان أنا.
دخلت غرفتي، وأنا لا أقدر أن أطرد عني صورة ذلك الزاهد الأشبه بالمجنون، الذي كنت رأيته في المرآة. وقد ظلت نظرته تلاحقني سنين بعد، وما زلت، إلى اليوم، لا أعرف كيف أتخلص منها.
بقيت، طوال تلك الفترة الانتقالية، أكتفي بالنظر والإنصات. كنت أرفض التحدث مع مسؤولين يطمعون في تبرئة ذمتهم بمجرد التظاهر لي بالاهتمام لأمري، أو أجلاف وقحين يتظاهرون لي بالتعاطف والتسامح. فقد كنت أكتفي بالتحديق في أعينهم، ولا أحري جواباً. فأبث الرعب في أنفسهم. فما كان أغناني عن شفقتهم.
وحل اليوم المقدَّر. وقد كان أفرج قبله بأسبوع من رفاقنا عن أولئك الذين كانت تحرص الإدراة على التكتم عنهم بشدة. وعلم المسؤولون أن الصحافة ستكون في انتظارنا عند خروجنا من المعتقل، فقرروا أن يفرجوا عنا في مجموعات صغيرة، وكان ابتداؤهم بأحسننا هيأة. فلما حان دوري، جاءني فضول ومعه طبيب، وأخبراني أن الملك قد شملني بعطفه الكبير، وعفا عني، فينبغي لي أن أظل ممتناً له إلى الأبد. ولذلك، فلا ينبغي لي أن أتحدث إلى أي صحافي، أو أدلي بأي تصريح... فأطرقت أنصت إليه، في خشوع، وتواضع، وخضوع، وكأني أشد رعايا جلالته طاعة. وكان كل تفكيري في أمر واحد؛ وهو أنني لا أريد، بأي ثمن، أن أعود لأتجرع العذاب الذي تكبدته أثناء نقلي من تازمامرت. فلما انتهى من كلامه، قلت له :
- سيدي العقيد، لا يمكنني أن أتحمل السفر على متن الشاحنة. فسأكون عند الوصول في أسوإ حال. فكيف سأقدر أن أقف على قدميَّ بمحضر أسرتي والأشخاص الذين من المحتمل أن يأتوا لاستقبالي؟
كانت حجة دامغة. فاستدار نحو الطبيب، وسأله رأيه. فوجد منه موافقة. فجعلا يقلبان التفكير في حل للأمر. لكن لم يكن أمامهما متسع من الوقت. وكنت أمتلك الجواب الجاهز، بعد أن أمضيت شهرين كاملين أقلب فيه الفكر. ثم التفتُّ نحو الطبيب، وقلت له :
- هل لي في حشية على متن الشاحنة؟
فصاح العقيد باسم، طلع علينا صاحبه كما لو بسحر ساحر. وقال له :
- اجعل له حشية في الشاحنة!
- أوامرك سيدي العقيد!
وبذلك جنبني فضول الجلاد ستمائة كيلومتر من المحن والعذابات الزائدة.
مرت الرحلة على نحو ما كنت أتوقع لها. وقد كان معي رفيقان آخران، شاركاني محنة ذلك السفر. وواتاني أن أكون معصب العينين ومقيد اليدين، فقد كنت أضطجع على أحد جنبي، ثم على الآخر، أو أقتعد حشيتي. فكنت مستريحاً، حين سلموني إلى قيادة أركان الدرك في مراكش.
أقلتني سيارة إلى إدارة أخرى في الحي حيث كانت تقطن والدتي. وهناك وجدت السلطات الأمنية، عن بكرة أبيها، قد احتشدت في مكتب القايد، رئيس الدائرة. فكلمني هذا الأخير كما كان يخاطبني العقيد فضول، لكني في تلك المرة لم أكن قيد الاعتقال. فاكتفيت بالتحديق في عينيه، في صمت، من دون أن يرف لي جفن. وشعر هو بالانزعاج، فجعل يتلوى في كرسيه. كنت أتصور حالته في مواجهة تلك النظرة الزائغة، الأشبه بنظرة معتوه، تلك النظرة التي لطالما هزت كياني أنا أيضاً. وأدرك مفوض المقاطعة مبلغ حيرته، فهب لنجدته، قائلاً :
- أعتقد أن علينا أن نترك السيد يعود إلى ذويه.
والتقف القايد الأمر التقافاً، أومأ إلى مساعد له، فأدخل شخصين. تعرفت في الأول على أخي عبد الله، ولم أتعرف في الثاني على أختي الصغيرة إلهام، التي كانت في الخامسة عشرة وقت أن تعرضت للاعتقال. وعندما هممت بمغادرة المكتب، لمحت دركياً يقف هناك. فنضوت عني المعطف العسكري الذي كنت أرتديه، وسلمته له، قائلاً :
- هذا يخصكم.

عزيز بنبين...تازْمامَّرْت .. تازْمامَوْت -13-

 عزيز بنبين...تازْمامَّرْت .. تازْمامَوْت -13-




ولد عزيز بنبين بمراكش سنة 1946 . عاش مخضرماً؛ يجمع بين المدرسة الفرنسية الحديثة والمدينة العتيقة في مراكش، وبين صرامة الأدب الحديث ومتخيَّل الحكاية الشرقية. أمضى عشرين سنة رهينَ السجن، سلخَ منها ثمانية عشرَ في معتقل تازمامَّرت.
فقد أُقحِم الضابط الشاب في المحاولة الانقلابية التي دارت وقائعها في قصر الصخيرات يوم 10 يوليوز 1971، ثم قُدم إلى محاكمة تعسفية، ليُلقَى به في المعتقل العسكري الرهيب، الذي نبت يومها في قلب الصحراء المغربية...
لقد أقبِر صاحبنا طوال عقدين من الزمن، في زنزانته رقم 13، التي لم تكن تزيد عن قبو إسمنتي بسعة مترين على ثلاثة. لا تطرقه عليه غير العقارب والأفاعي والرتيلاءات والصراصير. وظل المعتقل الشاب يكابد مصيره، كسيزيف وكأنتيغون. وظل يتسلح بإيمانه على مغالبة ذلك الجحيم، الذي يؤثثه العذاب والجنون والموت، ليس له فيه من وسيلة للاتصال بالحياة غير السمع، فجعل يكرس نفسه لرفاقه في المأساة، ويجعل من نفسه لهم حكاءً أو بائع أحلام...
ويعود عزيز بنبين، ههنا، ليرفع هذا القبر المؤلم الممض من الكلمات، تمجيداً لكل واحد من إخوته ضحايا تازمامرت. ويضع شهادة نفيسة عن كابوس سجني حديث. إنها قصة تضرب عميقاً في أغوار الطبيعة البشرية، وتشحذ قوة الإيمان والخيال الفائقة في مواجهة الوحشية الكاسرة.
فظل لا يكلمه إلى أن كان الإفراج عنا، وكظم الإخوة بوريكات غيظهم، لكنهم ظلوا يبحثون بكل الوسائل عن سبيل للانتقام لأخيهم.
لقد بدا أن البناية الثانية كانت تريد، هي الأخرى، أن تنتقم من أولئك الذين هجروها ولو إلى حين. فلم يمض علينا وقت يسير، حتى نزلت بنا خسارة فادحة؛ إذ فقدنا أستاذنا عبد الله الفراوي. الفقيه، ابن الفقيه، الذي كان يحفظ القرآن عن ظهر قلب، ووطن نفسه على أن يلقنه لنا. لقد كان في تلك النعمة ما ملأ علينا قسماً من وقتنا، وأتاح لنا أن نعلم أنفسنا، ونهرب من أنفسنا أيضاً. ولقد لقي الفراوي الجزاء السيئ بما أسدى إلينا من الخدمات؛ إذ كان ضحية للمذياع الوحيد الذي أمكن لنا أن نحصل عليه. فقد حصلنا على ذلك المذياع بفضل التقصير الذي كان من رجال الدرك، يوم أن فتشوا بوشعيب سكيبا. فلم يتنبهوا إلى الخاتم الذهبي الذي كان في أصبعه؛ فقد أمكن لذلك الخاتم أن يمر، بأعجوبة، بعمليات التفتيش المتتالية والعميقة التي لم يكن للمعتقل مهربٌ منها. وندين بذلك المذياع كذلك إلى الجشع الذي كان يتملك الرجل، فيدفعه إلى التغلب على مخاوفه المتأصلة فيه.
وقد كانت تأتي على الحراس، بين الفينة والأخرى، سوْرات من الحزن؛ فإذا موجة الروح المعنَّاة من فرط الحسرة والندم تدفعهم إلى البحث عن أذن مواسية لتخفف عنهم ما يتكبدون من عذاب الضمير. غير أنهم لم يكونوا يجرؤون على البوح بما في دخائلهم إلى زملائهم، خشية أن يغتابوهم، فكانوا يرتدون إلينا ويجدون بغيتهم في صمتنا. وكانوا يجدون ضالتهم، عامة، في المعتقل الذي يبدو لهم شديد التكتم. وقد كان سكيبا واحداً من هؤلاء المعتقلين الكتومين.
ففي ذلك اليوم تقرب العريف الذي لا نعرف اسمه من رفيقنا. وقد كان من أفظع الحراس وأرعبهم؛ فقد كان مخوفاً من الجميع، لأنه كان، كما يقال، واشياً لدى القائد. فكان أن جاء ليتسمر أمام باب زنزانة سكيبا، وجعل يحكي له ما يلاقي في يومه من عنت، وفجأة إذا هو يرمق الخاتم الذي كان يلتمع في أصبعه، في الظلمة التي تغشى الزنزانة. فقال له :
- عجباً، إنه خاتم، كيف حصلت عليه؟
فاندفع سكيبا إلى الفتحة التي جعلها الحارس في باب زنزانته، وصاح به :
- كما ترى، فالله قد خلصه من طمع جلادينا لكي يصل إليك.
- كيف إليَّ؟ ماذا تعني؟
فواصل سكيبا كلامه :
- ببساطة، سأعطيك إياه، لتبيعه، وتأتيني بنصف المال. إنني أثق فيك، فإذا كان الله قد سخرك لتحصل عليه، فلأنه يعلم أنك رجل شهم، وأنك تخشاه.
فصاح الحارس :
- كلا، كلا! لا أستطيع أن أفعل! فماذا سيحيق بي، لو انكشف أمري؟ سيقتلونني. وفوق ذلك، فإذا لم يكن بحوزتك وصلٌ، فلربما اتهمت باللصوصية.
فأدرك سكيبا أن الرجل إن كان يخشى مغبة ذلك الفعل، فلأنه قد كان يدور في خلدها أن يأخذ ذلك الخاتم. واغتبط رفيقنا للأمر، فقد كان يبحث منذ وقت غير يسير عن وسيلة للتخلص منه. فقد كان في بادئ الأمر سعيداً أن خلص شيئاً من ماله. وشيئاً فشيئاً، بدأ الخاتم يصير له وصمة عار؛ فقد أصبح مسبة لبؤسه، وللأهوال التي يحفل بها ذلك المكان، إذ كان يربطه بخارج المعتقل، ويصله بالحياة، وبالآمال المجهضة، ويكون له مصدر ندم وحسرة. فما أكثر ما فكر أن يلقي به في المرحاض، أو في القمامة، لكنه لا يلبث أن يعدل عن قراره.
وها إنه قد وجد الفرصة مواتية ليضرب عصفورين بحجر واحد : أن يتخلص من الرمز الذي يذكره بماضيه، ويفتح للبناية نافذة على العالم.
فأخذ صديقنا يزايد على بضاعته. فقد قال للحارس :
- ليست في حاجة لأن تبيعه، فخذه، إنني أهديك إياه!
- وماذا تطلب مقابلاً له؟
- لاشيء، إلا بركة الله.
- غير ممكن، إنك تعطيني إياه، وأنت لا تملك شيئاً.
لقد كان متحيراً في طمعه؛ فلم يستطع أن يفهم ذلك الوضع غير المعقول : شحاذ يعطي صدقة. فبدر منه، حينها، عمل تلقائي، ومن أغوار لاوعيه انبجس نور من بركة الله، حسب العبارة التي ظل سكيبا طوال حديثهما يرجعها على مسمعه.
- موافق، سآخذه، لكن ينبغي لي أنا أيضاً، أن آتيك بشيء.
فرد سكيبا بصوت هادئ، يصطنع اللامبالاة:
- إن أبسط شيء وأسهل شيء سيكون مذياعاً صغيراً.
فإذا الحارس يصرخ، كمن لدغته عقرب :
- ماذا! أنت مجنون! هل تريد لي الموت؟ أنك تريد أن أجيء لأتعفن إلى جوارك؟
- طيب، لابأس!
- هاك، خذ خاتمك، فلا حاجة بي إليه.
- كلا، والله، لقد أعطيتك إياه، فهو لك، ولا أريد عنه مقابلاً.
ودخل بوشعيب زنزانته، وتركه متسمراً هناك. فجعل يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، لا يعرف ما يفعل. وفجأة، صفَّق الباب بشدة، وتحقق من إغلاق الزنازن الأخرى، وانصرف يتميز حنقاً وحيرة.

تازْمامَّرْت .. تازْمامَوْت-12-

 تازْمامَّرْت .. تازْمامَوْت




ولد عزيز بنبين بمراكش سنة 1946 . عاش مخضرماً؛ يجمع بين المدرسة الفرنسية الحديثة والمدينة العتيقة في مراكش، وبين صرامة الأدب الحديث ومتخيَّل الحكاية الشرقية. أمضى عشرين سنة رهينَ السجن، سلخَ منها ثمانية عشرَ في معتقل تازمامَّرت.
فقد أُقحِم الضابط الشاب في المحاولة الانقلابية التي دارت وقائعها في قصر الصخيرات يوم 10 يوليوز 1971، ثم قُدم إلى محاكمة تعسفية، ليُلقَى به في المعتقل العسكري الرهيب، الذي نبت يومها في قلب الصحراء المغربية...
لقد أقبِر صاحبنا طوال عقدين من الزمن، في زنزانته رقم 13، التي لم تكن تزيد عن قبو إسمنتي بسعة مترين على ثلاثة. لا تطرقه عليه غير العقارب والأفاعي والرتيلاءات والصراصير. وظل المعتقل الشاب يكابد مصيره، كسيزيف وكأنتيغون. وظل يتسلح بإيمانه على مغالبة ذلك الجحيم، الذي يؤثثه العذاب والجنون والموت، ليس له فيه من وسيلة للاتصال بالحياة غير السمع، فجعل يكرس نفسه لرفاقه في المأساة، ويجعل من نفسه لهم حكاءً أو بائع أحلام...
ويعود عزيز بنبين، ههنا، ليرفع هذا القبر المؤلم الممض من الكلمات، تمجيداً لكل واحد من إخوته ضحايا تازمامرت. ويضع شهادة نفيسة عن كابوس سجني حديث. إنها قصة تضرب عميقاً في أغوار الطبيعة البشرية، وتشحذ قوة الإيمان والخيال الفائقة في مواجهة الوحشية الكاسرة.
كان عاشور يخفي، من وراء حماسه لأن يكون المبتدئ بالكلام مع «ابن عمومته»، خوفاً مرضياً من أن يتعاطف وواحد منا، وأن يستخفه العجب والزهو، فيرسل إليه، ومن يدري، بشيء عن طريق الحراس. فكنا، بعد كل زيارة يقوم بها الطويل، نسمعه يذرع زنزانته بخطى كبيرة حانقة، وهو يدمدم بكلام غير مفهوم. فقد كان ذلك الأمر يصيبه بتكدر شديد. فكان يستذكر كل ثانية، وكل كلمة قيلت، وكل ضجة مريبة. وكان خياله يجمح به، فيختلق ركاماً من السيناريوهات غير المتناسقة، ثم لا يلبث أن يرجع عليها فيمحوها في لمح البصر. أو يتوقف لحظة، فيصيخ السمع إلى الضجات الصادرة عن البناية، ثم يعاود الانصراف من جديد، وهو أشد حنقاً مما كان. وفجأة، ومن غير سبب واضح، كان يعود إلى هدوئه، فيناديني بصوت رقيق يوحي بالود. فلا يساورني شك أنني أكون في تلك اللحظات صديقه حقاً، وأنه يكون صادقاً في ما يقول. وما يكون حينها إلا يحتاج أن يسألني في شيئ ؛ فقد يتذكر في النقاش مع الطويل، فقرة قد سها عنها، أو خبراً لم يسمعه، أو مجرد تلميح كان يرغب في الحصول له على توضيح. والواقع أن الضغط عليه كان شديداً، حتى لم يجد مخرجاً إلا الهروب، فلا يقع في الجنون. فكان يتحدث إلى الشخص الوحيد الذي يحتمل أن يوليه شيئاً من شفقة. كان يعرف أنني سأحكي له أي شيء، وحتى لو قلت له الحقيقة فما كان ليصدقني. فكنت أحكي له ما كان يحب أن يسمع. لقد كنت أشعره بالاطمئنان. حقاً، إنه كان يجعلنا تعساء، بيد أنه كان يفوقنا تعاسة. وما كنت أستطيع أن أخذله. لقد كان صليبي الذي أحمله.
كان الإخوة بوريكات، الذين سأعود إلى الحديث عنهم، هم ألد أعدائه. فقد كان يؤاخذهم أن كانوا من المدنيين، فلم يكن يرى لهم مكاناً في سجن عسكري، وكأنما كان يمكن للجحيم أن يميز بين نزلائه. فلا فرق بين مدني وعسكري، ويهودي ومسيحي ومسلم، وغني وفقير، وأبيض وأسود، فقلوبنا وأفعالنا هي التي تقودنا إلى حيث نستحق أن نكون. وكان يؤاخذهم بالتكلم باستمرار بالفرنسية، هو الذي كان لا يفقه شيئاً في هذه اللغة، وأنهم لم يكونوا لطفاء وإياه، وأنهم لم يكونوا يعيرونه من اهتمام. ثم إنه قد كان يبغضهم لأنه كان يروق له أن يبغضهم.
وذات يوم خيِّل إليه أن بايزيد بوريكات قد تحدث إلى أحد الحراس، وتهيأ له، في خضم هذيانه، أن حديثهما قد دار عنه، ولربما يكون الحراس دس له شيئاً. وذلك أمر كان لا يطيقه. فكان أن اغتنم يوماً، كان فيه أحد الجنود - ليس هو بأرقهم - لوحده، وقد قبل أن يترك، خلال فترة خدمته، أبواب الزنازن مفتوحة، ليسمح لنا بتنشق الهواء، فوثب عاشور خارج زنزانته، وهجم على بايزيد المسكين، المقعد إلى الأرض، شبه المشلول، وانهال عليه بالضرب. ولم ينفع المسكينَ إخوته بشيء، إذ كانوا مثله في أسوإ حال. وعقدت ألسنتنا الدهشة، فلم يسبق لنا أن شهدنا مثيلاً لذلك الحادث في تازمامرت؛ أن يتعرض المعتقل للاعتداء الجسماني! لقد كان شيئاً جللاً. فمن ذا الذي كان بين نزلاء المعتقل لا يزال يمتلك القوة ليقدم على مثل تلك البدعة؟ ومن ذا الذي كان يمتلك الشجاعة ليزهد في نفحة من الهواء الرطيب؟ ومن ذا الذي يمكن أن يبلغ به الجنون إلى أن يتجاسر على رفع يده في وجه محتضر؟ كان الجواب يتلخص في كلمة واحدة : عاشور.
لقد كان أقلنا انضراراً من الناحية الجسمانية؛ وإن يكن أكبرنا سناً. ولربما كان ذلك هو السبب الذي كان يزين له أنه يسود على الحيوانات المرضى بالطاعون.
لقد كنا قلقين بشأن ردود فعل الحارس، ولسوف يكلفنا هذا الأمر غالياً جداً. لكن ههنا كذلك كانت المفاجأة على قدر الحدث. فقد كان الحارس زميلاً سابقاً لعاشور، وله به معرفة منذ وقت طويل. فكان يمحض عاشور في كثير من المناسبات، بعض الاهتمام، فصور له جنونه أن الرجل كان يتستر عنه؛ بل زين له ما هو أسوأ، أن يعمد إلى إغلاق أبواب الزنازن بصفة نهائية، فيحرم المعتقلين نفحة الهواء، ويحرمهم التحدث إلى بعضهم، فينتهي العذاب الذي كان يجده من عجزه أن يراقب كل شيء من عتبة زنزانته. ولقد تملك الغضب الحارس الذي أسدى إلينا خدمة جليلة، وخاطر بنفسه من أجلنا، فلقي شر جزاء. ومع ذلك، فقد أمضى الرجل سنين طوالاً بجانبنا، وكان يعرف كل واحد منا. وقد كانت الرياح، في تلك الفترة، تسير في الاتجاه المواتي، فكانت الشائعات تروج عن احتمال الإفراج عنا. وبدأ الحديث يروج في الخارج عن المعتقل، خاصة في البلاد الأجنبية. فما عاد الرعب يجثم على أنفسنا كما كان من قبل.
تفكر الحارس قليلاً، ثم توجه، في هدوء، نحو عاشور، وأمره بالعودة إلى زنزانته، ثم أحكم إيصادها من ورائه. وغادر البناية، من غير أن يكلمنا بكلمة، وأحكم إغلاق باب البناية، وانصرف، تاركاً أبواب زنازننا مفتوحة. وقد كان يمكن لذلك الأمر أن يكون عقاباً عادلاً وطبيعياً في حق أي واحد منا، وأما عاشور فما كان أقساه عليه من عقاب! وما كان أبلغه من حكم من ذلك الحارس الأمي! وظل يتلذذ بإطالة تلك المحنة. وقد كان الحراس، خلال الأيام التالية، في إجازة، فظل يمعن في مكيدته. فكانت تلك أسوأ الأوقات التي مرت على عاشور طوال فترة اعتقاله. فلقد خلق لنفسه أعداء ألداء من الإخوة بوريكات، كما خلق له عدواً في شخص باغازي، ذلك الحارس الذي كان يتهمه بأنه استغل طيبوبته، ليحاول توريطه.

تازْمامَّرْت .. تازْمامَوْت-11-

 تازْمامَّرْت .. تازْمامَوْت




ولد عزيز بنبين بمراكش سنة 1946 . عاش مخضرماً؛ يجمع بين المدرسة الفرنسية الحديثة والمدينة العتيقة في مراكش، وبين صرامة الأدب الحديث ومتخيَّل الحكاية الشرقية. أمضى عشرين سنة رهينَ السجن، سلخَ منها ثمانية عشرَ في معتقل تازمامَّرت.
فقد أُقحِم الضابط الشاب في المحاولة الانقلابية التي دارت وقائعها في قصر الصخيرات يوم 10 يوليوز 1971، ثم قُدم إلى محاكمة تعسفية، ليُلقَى به في المعتقل العسكري الرهيب، الذي نبت يومها في قلب الصحراء المغربية...
لقد أقبِر صاحبنا طوال عقدين من الزمن، في زنزانته رقم 13، التي لم تكن تزيد عن قبو إسمنتي بسعة مترين على ثلاثة. لا تطرقه عليه غير العقارب والأفاعي والرتيلاءات والصراصير. وظل المعتقل الشاب يكابد مصيره، كسيزيف وكأنتيغون. وظل يتسلح بإيمانه على مغالبة ذلك الجحيم، الذي يؤثثه العذاب والجنون والموت، ليس له فيه من وسيلة للاتصال بالحياة غير السمع، فجعل يكرس نفسه لرفاقه في المأساة، ويجعل من نفسه لهم حكاءً أو بائع أحلام...
ويعود عزيز بنبين، ههنا، ليرفع هذا القبر المؤلم الممض من الكلمات، تمجيداً لكل واحد من إخوته ضحايا تازمامرت. ويضع شهادة نفيسة عن كابوس سجني حديث. إنها قصة تضرب عميقاً في أغوار الطبيعة البشرية، وتشحذ قوة الإيمان والخيال الفائقة في مواجهة الوحشية الكاسرة.
رحِّل تسعة من رفاقنا إلى البناية الأولى، فهلك فيها منهم واحد؛ ذلك هو عبد السلام الرابحي. فأما الشاوي، والرجالي، والدغوغي، فقد اغتنموا الوداعة التي نعِم بها القدر على تلك البناية، فكُتبت لهم النجاة. وأما الخمسة الآخرون، فعادوا ليصطلوا وإيانا بالجحيم، فيلقوا حتفهم، ولا ينجو منهم غير عاشور.
في ذلك اليوم، كانت البناية تنعم بالهدوء؛ فبعضٌ كان يسبح في أحلامه، وبعضٌ في كوابيسه، ثم إذا الطيور تحدث بلبلة وضجيجاً. ونفخت جوقتها في الأبواق، مؤذنة بقرب زيارة مباغتة للحراس، في تلك الساعة غير المعهودة. ولقد استبشرنا بالأمر؛ إذ كنا متعطشين إلى كل حدث، وكل مفاجأة - ولو كانت غير سارة -، وكل ما يمكنه أن يخفف عنا رتابة المعتقل.
رنَّت المفاتيح في الأقفال، ثم رنت المزاليج، وبرز الحراس في البناية، يتقدمون رجال الدرك، الذين كانوا يسحبون شقياً سيئ الحظ، قيدت يداه خلف ظهره، وعصبتْ عينياه.
ذلك الرجل يسمى - كما سنعرف في ما بعد - الميلودي الصديق، وقد كان رقيباً أول في الحرس الملكي، وربما كان في لواء المظليين؛ فلم نعرف له انتساباً بعينه. غير أننا كنا موقنين أنه كان يقوم بالحراسة في القصر.
كان الصديق نفوراً، متحرزاً، فأضرب عن أي اتصال وإيانا. وانكفأ على نفسه، وأقام من حوله سوراً من الصمت والتوجس. وكان الرجل - وذلك أمر نادر الحدوث في تازمامرت - لا يحدِّث نفسه، ولا يوجه أقل كلمة إلى الحراس، ويمتنع عن الجواب عليهم إذا نادوا عليه. ولم يكن يغني أيضاً.
لم نكن نسمع له صوتاً إلا لمدة نصف ساعة؛ أثناء ما يكون يمارس تمارينه الرياضية. وكذلك كنا نميز ضجة غريبة، ثقيلة، كأنها لكيس يُسقطه أرضاً، أو يقذفه بشدة ليصطدم بالحائط.
فأي جرم اقترف، وأي محرَّم انتهك، ليُزج به في ذلك المعتقل؟ كان الغموض يزداد من حوله تكثفاً. ولربما كان أولئك الأشخاص الذين أرسلوا به إلى ذلك المكان على علم بقضيته، ولربما كان هو نفسه يعلم بها بطبيعة الحال، لكنه كان يعاند في رفض كل اتصال.
وقد كانت الشائعات استبقت مجيئه، تتحدث عن نقله إلى تازمامرت. وظلت الشائعات ترافق لغز اعتقاله، وتزرع الرعب في مخيلة الناس من حوله. أليس الرعب قد كان هو مبتدأ تلك الحكاية؟
سمعنا تلك الشائعات من أفواه الإخوة بوريقات، الذين التحقوا بنا بُعيد مجيء الصديق.
وقد انثالت الفرضيات من كل حدب وصوب. فكان منها التي تتحدث عن مشادة قد تكون نشبت بينه وإحدى الأميرات أثناء ما كان يقوم بالحراسة عند مدخل القصر؛ ولربما يكون تطاول عليها بالسباب. والفرضية الثانية كانت تقول إنه أطلق تهديدات بالموت في حق الملك، وإنه تحدث عن دية كانت عند الملك لأهل الريف. لكن الظاهر أن ذلك الكلام لم يكن يزيد عن إشاعات. وأما الحقيقة فلم يكن يعرفها غير الصديق وغير خصومه.
تواصلت الحياة في البناية الثانية، من دون أن يشارك فيها الميلودي. فما كنا ننتبه إلى وجوده إلا عندما يقبل على تمارينه الرياضية. إلى أن كان يوم خيَّم فيه الصمت على زنزانته. فما عدنا نسمع له صوتاً، ولا عاد يزاول رياضة؛ وانتفى الصديق من الوجود. ولقد قلقنا عليه، لكن جهودنا للتحدث وإياه باءت بالفشل. فرجونا الحراس أن يتحروا عن حالته الصحية، لكن من دون طائل. على الرغم من أنهم قد صاروا في تلك الفترة أكثر تساهلاً.
وذات يوم لم يكن علينا سوى حارس واحد في الخدمة، فرجوته أن يتركني أنتقل إلى الزنزانة حيث يرقد جارنا المعاند، لكي أطمئن على حاله. وكان من حظي أن لقيت منه الاستجابة. فتوجهت إلى زنزانة رفيقنا. وقد لزمني أن أتعود على الظلمة التي كانت تسود المكان، لكي أميز الكتلة الجامدة، المكومة فوق البلاطة. فقلت بصوت تعمدت أن يكون حازماً، لأظهر له أنني غير مستعد للاستسام : «السلام عليكم». فغمغم بكلام لا يبين، وكانت مفاجأتي كبيرة أنني لم ألق منه مقاومة. بل إنني لاحظت، على العكس، في عينيه البراقتين التائهتين المحملقتين فيَّ، ما يشبه السكينة، كأنه رجاء. كمثل تلك النظرة التي يمكن أن نلاقيها، ذات ليل شتوي، في عيني طفل لقيط. فتناولت دورقه، ومددت به إلى الحارس، الذي ملأه، واقتربت منه بالثفل الذي يقوم لدينا مقام الطعام. لكنه لبث ساكناً لا يأتي حراكاً. فتوجست أنه يشكو من شيء. سألته :
- كيف حالك؟
فصمت برهة، ثم همهم بصوت قلق مضطرب :
- بخير، لكنك أنت لم تتناول وجبتك.
وبالفعل، فقد سهوت، في خضم تلك الأحداث، فلم أتناول طعامي. وبلغت الحماسة والسخاء بالحارس أن أوصد عليَّ الغرفة مع مريضي. ورغبت في أن أكسب ثقته، وأشعره بكثير من الارتياح، فأجبته بصوت تعمدت أن أجعله متقطعاً :
- سنتشارك غرفتك.
فتبسم، وطأطأ رأسه قليلاً، ثم أطلق أنة خافته. فسألته :
- ماذا بك؟
- لاشيء.
ورأيت أنه يريد أن يخدعني. فدنوت منه، وتجاسرت على أن أضع يدي على جبهته. فوجدتها ملتهبة. حدجته بنظرة قاسية، وقلت له بصوت آمر :
- والآن، قل لي ماذا يسوؤك؟
فبدا أنه لم يتأثر لما قلت. فقد نظر إليَّ بلطف، ثم قال لي :
- كلْ.
- موافق، فلنأكل معاً.
اقتربت منه، ومددت إليه بالإناء. فلم يأت حركة ليمسك به، ودعاني أن أكون البادئ بالأكل، وقال :
- أما أنا فسآكل بعد حين. فلا أشعر الآن بالجوع.
وقد لاحظت، منذ أن جئت إلى زنزانته، أنه يحاول بشتى الوسائل أن يخفي شيئاً ما كان موضوعاً إلى جانبه، فوق البلاطة. وكان شديد الحرص عليه، ما أثار فضولي. فاقترحت عليه أن أساعده على النهوض، لكنه رفض بشدة. فما كان مني إلا أن هجمت على غطائه ورفعته. فلم يبد مقاومة، فما عادت قواه تسعفه عليها.
رأيت تحت الغطاء صُرَّة كبيرة قد لُفت في قطع من الخرق هي بقايا الثياب التي كان صاحبنا يرتديها حين مجيئه إلى تازمامرت. ووضعت يدي داخلها، فأطلق صرخة رهيبة. حانت مني قفزة إلى الوراء، ونظرت إليه، مذهولاً. المؤكد أنه تبين كل ما كانت تحبل به نظرتي من أسى. والمؤكد، كذلك، أنه قد أشفق عليَّ، أكثر مما كان يشفق على نفسه. ثم قال :
- إنها يدي، قد انكسرت حين كنت أمارس الرياضة، وهي تؤلمني كثيراً.
فسألته بصوت لم يكن أحسن من صوته :
- هل يمكنني أن أراها؟
- نعم، لكن بتأن.
فاقتربت بحذر شديد، ورأيت ذراعه. فكنت مع كل حركة آتيها أنتزع منه شكاة حادة.
وكنت كلما زدت افتحاصاً لذلك العضو، تشد بخناقي رائحة لا تطاق كأنها رائحة الجيفة. ويعلم الله أننا اعتدنا على الروائح أشدها نتانة؛ رائحة القاذورات، ورائحة الموت، لكن تلك الرائحة قد فاقتها جميعاً. وتملكتني رغبة حادة في التقيؤ، لكنني كنت مكباً بوجهي على المسكين الميلودي. فلم يكن بد من أن أتمالك نفسي فلا أفصح عن أي شيء. وفجأة، بدت لي تلك الذراع التي تأكلتها الغنغرينة هائلة، مائلة إلى الزرقة، متقيحة. فقد زاد حجمها ثلاثة أضعاف.
كنت إخالني أدركت الصلابة وما عاد يحركني شيء أو أتأثر لشيء في تازمامرت. فقد رأيت الموت، وأحسسته، ولامسته، لكنني في تلك المرة انهزمت، وأنهكت إنهاكاً. وأحسستني صغيراً، وعاجزاً، وأعزل أمام ذلك المشهد، إلى حد بدت لي آلامي وأحزاني شيئاً تافهاً. فتحولت بحزني نحو «القادر على كل شيء»، وتوجهت إليه بهذا الدعاء :
- ربي، خفف عنه آلامه، وهبه الخلاص.
نعم، لقد كنت أرجو وفاته، ولو كنت أمتلك القدرة، لفعلت كما يفعل السود في لويزيانا، ولتناولت سكْسيتي ونفيري، وصرت أرافق جنازته.
وقد كنا نذهب عنده تباعاً، لنغيثه، ونرافقه إلى مصيره. كان يمارس الرياضة، ويتهالك بنفسه على الحائط، ثم يستمسك بيديه؛ تلك كانت الضجة المصمة التي كنا نسمعها. إلى أن كان يوم، أخطأ التقدير، فكانت المأساة. ولربما كان يمكنه، لو أسعِف في أوانه، وربما لو كان قدمت إليه بعض المسكنات، وربما... وربما... وربما... لم يكن فعل شيئاً، ربما...!
وبعد وفاة الرجل المتوحد في ربيع العام 1980، عاد الرفاق المنفيون من البناية الأخرى، أو على الأقل أولئك منهم الذين شاءت لهم لعنة القدر أن يعودوا إلى البناية الأولى.

عزيز بنيين : تازْمامَّرْت .. تازْمامَوْت-10-

 عزيز بنيين : تازْمامَّرْت .. تازْمامَوْت






ولد عزيز بنبين بمراكش سنة 1946 . عاش مخضرماً؛ يجمع بين المدرسة الفرنسية الحديثة والمدينة العتيقة في مراكش، وبين صرامة الأدب الحديث ومتخيَّل الحكاية الشرقية. أمضى عشرين سنة رهينَ السجن، سلخَ منها ثمانية عشرَ في معتقل تازمامَّرت.
فقد أُقحِم الضابط الشاب في المحاولة الانقلابية التي دارت وقائعها في قصر الصخيرات يوم 10 يوليوز 1971، ثم قُدم إلى محاكمة تعسفية، ليُلقَى به في المعتقل العسكري الرهيب، الذي نبت يومها في قلب الصحراء المغربية...
لقد أقبِر صاحبنا طوال عقدين من الزمن، في زنزانته رقم 13، التي لم تكن تزيد عن قبو إسمنتي بسعة مترين على ثلاثة. لا تطرقه عليه غير العقارب والأفاعي والرتيلاءات والصراصير. وظل المعتقل الشاب يكابد مصيره، كسيزيف وكأنتيغون. وظل يتسلح بإيمانه على مغالبة ذلك الجحيم، الذي يؤثثه العذاب والجنون والموت، ليس له فيه من وسيلة للاتصال بالحياة غير السمع، فجعل يكرس نفسه لرفاقه في المأساة، ويجعل من نفسه لهم حكاءً أو بائع أحلام...
ويعود عزيز بنبين، ههنا، ليرفع هذا القبر المؤلم الممض من الكلمات، تمجيداً لكل واحد من إخوته ضحايا تازمامرت. ويضع شهادة نفيسة عن كابوس سجني حديث. إنها قصة تضرب عميقاً في أغوار الطبيعة البشرية، وتشحذ قوة الإيمان والخيال الفائقة في مواجهة الوحشية الكاسرة.
من ذا الذي كانت البومة لا تزال في انتظاره، في ذلك الشهر فبراير، وفي زمهرير ذلك الشتاء الرهيب؟ إنه رفيقي الأثير؛ العايدي!
كان والد العايدي بناء؛ أسمر، متين البنية. ولم يكن يوازي قامته الفارعة وقوته غير خمد شعوره وتبلد إحساسه. فهو لم يعرف العنف، ولا الغضب. وكثيراً ما كان يسلو عما يحدث من حوله، فلا يكترث له. لم يكن له سوى ابن واحد، لكنه كان يتصرف وكأن له دزينة من الأبناء. فلما توفيت أم الصبي، حزن عليها، وإن لم يبين عن حزنه إلا بتقتير.
ولقد أقام شعائر الجنازة، فما أهمل منها شيئاً، وقام بدفنها بما تقضي الشريعة. ثم قلب الصفحة. فلما تصرمت فترة الحداد، تزوج ثانية. وحزن الطفل على أمه، ثم تعقل. لم يسأل أباه شيئاً، فقد كان يعرف أنه لن يظفر منه بجواب.
إن الأطفال، خاصة منهم اليتامى، يُرزقون ملائكة ترعاهم. وأما العايدي، فملاكه كان، بلا منازع، عمه، شقيق أبيه، ونقيضه في كل شيء. فقد كان رجلاً رؤوفاً مواسياً. أدرك مبلغ الخزن والأسى الذي كان يتملك الطفل، فقرر من تلقاء نفسه، أن يأخذه تحت جناحه. فلما تزوج الأب زواجه الثاني، صار العم يكثر من زياراته، خاصة في المساء، لأن التقاليد تمنعه من التردد على بيت أخيه أثناء النهار في غياب رب البيت. فكان يتذرع بالسؤال عن صحة أخيه والاستفسار عن أحواله. لكن الأب لم يكن بليداً؛ فقد عرف أن تلك الزيارات كانت لأجل ابنه. فواتاه أن يعرف أن يكون ثمة شخص ليقدم للطفل ما عجز هو أن يمنحه له.
فلما انقضت الأيام الأولى، إذا زوجة الأب قد صارت ترغب في إثبات حضورها، ورسم حدود مملكتها. وسرعان ما اشتدت تلك الرغبة حتى تملكت عليها نفسها. فعزلت ربيبها في غرفة ضيقة، أنقصت أثاثها إلى أقصى حد. وكان الأب يغيب عن البيت طوال النهار، فكانت تستغل غيابه لتطرد الطفل من البيت. فإذا احتج بحاجته إلى البقاء في البيت لإنجاز فروضه، أو مراجعة دروسه، كانت تسخر منه، وتصيح في وجهه بذلك المثل السائر :
- تعلم حرفة بوك لا يغلبوك.
ثم تنفجر ضاحكة. أو تقول له أيضاً : - هل رأيت أن أباك أو عمك تعلَّما؟ كلا. فافعل كما يفعل الأطفال الذين هم في مثل سنك، واذهب لتتعلم مهنة، وعد بشيء من المال إلى البيت. فما أنت إلا طفيلي! هيا، انصرف! لا أريد أن أراك!
فكان يترك البيت ويخرج. وكثر خروجه من البيت، حتى اعتاد الشارع، الذي صار له هو المأوى والملاذ. فخبر أدق بؤره وزواياه، أشدها عداء وأكثرها دفئاً معاً. واتخذ له فيه أصدقاء، وكان له فيه أعداء. وتعلم أن يتعارك، وأن يهرب عندما لا يعود مناص من الهرب. وتعلم أن يتدبر أموره بنفسه. لقد أصبح رجلاً. ولئن تأثر بحياة الشارع، فلقد تأثر، كذلك، برعاية عمه له، هو الذي لم يكن يحاكمه، أو يدينه، وكان يقتصر على أن يريه الاختيارات الممكنة، وشتى السبل للثأر، لا من الناس، بل من الحياة. فالانتصار على الخصوم لا يتحقق إلا بالتعلم. فكان يرد على سخرية زوجة أبيه :
- المهنة نعم، لكن عن طريق المدرسة.
فاستمسك بدراسته، وظل يقاوم، إلى أن كان يوم أهله مستواه لإجراء مباراة المدرسة الجوية. وأصبح تلميذاً ضابط صف، وتعلم مهنة القيم على السلاح، فحاز فيها خبرة ومهارة. ثم أجرى تدريباً في الولايات المتحدة، ارتقى على إثره إلى رتبة الرقيب. وبذا تحقق له الثأر؛ فلقد تغلب على الشارع، وارتقى في المدارج، ليصبح مساعداً أول. ثم مسؤولاً عن مصلحة. وشهد له بالكفاءة، وحاز التقدير.
تزوج العايدي باكراً، وأنشأ له بيتاً، بعد أن عاش طفولته وهو منه محروم. وعاش سعيداً، تحيط به زوجه وبناته اللائي كن الأحب إلى قلبه من الجميع. وما أخل بواجبات الاب، فداوم على زيارة أبيه وزوجة أبيه، يسأل عن صحتهما وعن احتياجاتهما. وواظب على زيارة عمه، الذي ظل يكلؤه بعطفه، ولا يضن عليه، إلى أن توفي عمه، ولحق به أبوه بعد وقت قليل. فوفى بواجباته نحو الاثنين، وأعد لهما الجنازة اللائقة، كما تقضي تقاليد الإسلام.
فلما انتهت مراسيم الدفن، وجدت زوجة الأب نفسها في فاقة وعوز شديدين، بعد حياة زوجية طويلة. فما ورثت غير الثمُن من البيت ومن الأثاث. ولم يكن زوجها الراحل يتمتع بأية تغطية اجتماعية، فوجدت نفسها من غير معيل، توشك أن تلجأ إلى الشارع.
فلما انتهت فترة الحداد، جاء العايدي لزيارتها، ودعاها إلى أن تبيع جزءاً من الأثاث لم تكن بحاجة إليه، وأن تؤوي إلى الطابق الثاني من البيت، الذي تنازل لها عنه، وأن تؤجر الطابق السفلي، وتعيش من كرائه.
وأما هو، فقد كان مكتفياً، لا يحتاج شيئاً. فقد كانت لديه شقة يسكن فيها، وزوجة تشتغل أيضاً، وتساعد في حياة البيت، وفتيات رباهن على المودة والحب. لقد كان سعيداً؛ فلم يحتفظ في نفسه بموجدة، لا نحو أبيه، ولا نحو زوجة أبيه، ولا حتى نحو القدر، الذي لم يرحمه، وانتزعه من حب زوجته وحب بناته، كما سبق أن حرمه حبَّ أمه. تراه كان منبوذاً من الحب، ومطروداً من جنة عدن؟ وهل كان فؤاداً منذوراً للعيش إلى الأبد في صحراء قفر من حنان ومن طيبة؟
وقد كان، إذ هو في تازمامرت، يعيش بكرامة، ويقاوم بإيمان وشجاعة، ويشارك في حياة البناية، وفي الوفاق العام؛ يلقن الآخرين أنه كلما عم التفاهم والوفاق بيننا، صار بمقدورنا أن نعيش أطول.
وكان مستعداً على الدوام لأن يحكي قصة، أو ينشد أغنية (نعم، فقد كنا نغني في تازمامرت؛ فالغناء كان لنا كأنه ركن صغير من الجنة في خضم من الجحيم)، أو ليقول ملحة، أو ليحكي عن أسرته.
لقد انتصر على فقدانه لأمه، وعلى زواج أبيه، وعلى فساد الشارع، وعلى فخاخ الحياة العسكرية، لكنه سقط في مسألة لا تعدو أن تكون النظافة والتطهير. فقد انتصرت عليه المياه الوسخة التي فاضت حتى غمرت البناية. والله وحده يعلم في أي قذارة كنا نعيش.
فقد اتفق أن انسدت البالوعات ذات يوم، لغير ما سبب واضح، ففاضت بما حوت على الزنازن، وملأت الرواق. فكانت الرائحة مما لا يطاق. وكان الرفاق يتخبطون في البراز حتى عراقيبهم. فجمعوا أغراضهم فوق الدكة الإسمنتية، التي كانت لهم المرقد. وكانوا يستعملون معظم مياه الشرب لغسل أقدامهم قبل أن يصعدوا إلى مراقدهم. ومن غريب أنني كنت من بين القلة القليلة التي نجت من ذلك السيل، أنا الذي كان مرحاضي يفتقر إلى مرشاف. فقد كان يمكن للمصيبة أن تكون قاصمة ماحقة. فقد كانت البالوعات الخاصة بكل صف من صفي الزنازن تنتظم في صف مستقل، وكان الصفان يلتقيان في الخارج في حفرة عفنة عند أسفل بنايتنا. فأما الزنازن الواقعة في الصف الذي فيه زنزانتي وتعرضت للفيض، فقد كانت تقوم في الجانب السفلي، فجاءها الفيض من الباب. وأما أنا، فإن الرقم ثلاثة عشر كان عليَّّّّّّّ فألاً حسناً في تلك الملمة. فقد كان يقوم عند باب زنزانتي مرتفعٌ صغير بسبب عيب في الإسمنت الخام. فأسعفني بخدمة لا تقدر بثمن. كما وأنني لم ألبث مكتوف اليدين؛ فقد ضحيت بجزء من غطائي ذلك الشيء النفيس لأسد أسفل باب زنزانتي. ثم جاء الحراس يحتذون الجزمات، ليقوموا بواجبهم، في غير ما اكتراث إلى عظم بلوانا. فما جاؤوا إلا بعد مرور ثلاثة أيام، وبعد أن جاءهم الإذن من فوق، فجاؤوا في الصباح الباكر، يحملون آلة ضاغطة، كانوا يعولون عليها لتصرف البالوعة سبب تلك الكارثة. فوصلوا الآلة بثقب في الخارج، وشغلوها. والواضح أن الآلة كانت قوية، ذلك بأن عصيراً متدبقاً ونتناً قد انقذف من حفرة المرحاض، فرش كل ما كانت تحويه الزنازن، ولم ينج منها جزيرة الإسمنت الصغيرة التي كان الناجون من رفاقي يلوذون بها. وأما الحراس فقد كانوا في الخارج، مغتبطين بقوة تلك الآلة الرهيبة. فلما جاؤوا لينظروا في نتيجة عملهم، اكتشفوا هول الخسائر. فلم تزد الآلة الضاغطة على أن فاقمت من الوضعية. فلم يجدوا بداً، في آخر الأمر، من أن يلجأوا إلى استعمال الوسائل التقليدية. فجاؤوا في اليوم الموالي، بأنبوب للسقي وبالمكنسة الرسمية، لكي يساعدوا الرفاق، واحداً بعد آخر، على تنظيف زنازنهم، ما استطاعوا إليه سبيلاً. فلما فرغوا من تقديم الأكل لنا، استعملوا المكنسة نفسها في تنظيف الطنجرة.
كان العايدي هو أكثر من تضرر من تلك النكبة. فقد كنا في عز الشتاء، وقد كانت درجات الحرارة تنخفض إلى ما دون الصفر، فلا يعود بمقدور أحد أن يستحم أو يعود بمقدوره أن يتوضأ. واتفقنا على أنه أمرٌ بالغ الخطورة. وأما العايدي فما استطاع أن يتحمل وجود تلك الأكوام من القاذورات، فاقتحم المحظور، وقرر أن يستحم، من دون أن يراجع في الأمر أحداً من رفاقه. فاستحم بماء مثلج، ولم يكن راد لما هو مقدر؛ ثم لم يفلح في التخلص من الرائحة، لأنها كانت في نفسه، لكنه أصيب بداء الرئة، وكانت إصابة مميتة.
لم يكن رفيقنا هو وحده الذي استحوذت عليه تلك الرائحة، بل إن الحراس أنفسهم قد تأثروا لها، خاصة منهم المساعد أول. ففي يوم 20 فبراير 1978؛ وهو اليوم الذي توفي فيه العايدي، جاء بقنينة من الغريزيل، وجعل يهرق منها على الجثة، ويرش المكان، قبل أن يسحبها في غطائها إلى مثواها الأخير. ويا لها من كيمياء شيطانية، ذلك المزيج من الغريزيل والجير الحامي.

عزيز بنيين : تازْمامَّرْت .. تازْمامَوْت9-

 عزيز بنيين : تازْمامَّرْت .. تازْمامَوْت




ولد عزيز بنبين بمراكش سنة 1946 . عاش مخضرماً؛ يجمع بين المدرسة الفرنسية الحديثة والمدينة العتيقة في مراكش، وبين صرامة الأدب الحديث ومتخيَّل الحكاية الشرقية. أمضى عشرين سنة رهينَ السجن، سلخَ منها ثمانية عشرَ في معتقل تازمامَّرت.
فقد أُقحِم الضابط الشاب في المحاولة الانقلابية التي دارت وقائعها في قصر الصخيرات يوم 10 يوليوز 1971، ثم قُدم إلى محاكمة تعسفية، ليُلقَى به في المعتقل العسكري الرهيب، الذي نبت يومها في قلب الصحراء المغربية...
لقد أقبِر صاحبنا طوال عقدين من الزمن، في زنزانته رقم 13، التي لم تكن تزيد عن قبو إسمنتي بسعة مترين على ثلاثة. لا تطرقه عليه غير العقارب والأفاعي والرتيلاءات والصراصير. وظل المعتقل الشاب يكابد مصيره، كسيزيف وكأنتيغون. وظل يتسلح بإيمانه على مغالبة ذلك الجحيم، الذي يؤثثه العذاب والجنون والموت، ليس له فيه من وسيلة للاتصال بالحياة غير السمع، فجعل يكرس نفسه لرفاقه في المأساة، ويجعل من نفسه لهم حكاءً أو بائع أحلام...
ويعود عزيز بنبين، ههنا، ليرفع هذا القبر المؤلم الممض من الكلمات، تمجيداً لكل واحد من إخوته ضحايا تازمامرت. ويضع شهادة نفيسة عن كابوس سجني حديث. إنها قصة تضرب عميقاً في أغوار الطبيعة البشرية، وتشحذ قوة الإيمان والخيال الفائقة في مواجهة الوحشية الكاسرة.
استمر الموت يوقع فينا ضرباته القاصمة. وتراكمت علينا الأحلام المنذرة، وباتت البومة تصر على العودة كل مساء لتذكرنا بأن الحصاد كان لا يزال في أوله، وكانت رائحة الموت، بعد رحيل ثلاثة من رفاقنا، لا تزال تغلف المكان. وقد أشاع ذلك كله حيرة وريبة في البناية. فلم نعد نعرف من ذا الذي بيننا سيقوم بالرحلة الكبرى، ومن ذا الذي سيكون التالي في اللائحة. وما كنا نعلم أن الموت، الساخر المتعجرف، أراد أن يظهر لنا تفوقه، فيستهدفنا بضربة مزدوجة؛ فيوقع بيننا ضحيتين في يوم واحد : كويين والعايدي.
فأما كويين عماروش فقد كان ريفياً قصير القامة وضامراً. وكان يتميز بعينين براقتين، ضاربتين لوناً إلى الزرقة، وسحنة سمراء تنطوي على جلد ناصع البياض. لقد كانت سيماه الأوروبية تؤكد، عن صواب أو خطإ، تلك الأطروحة القائلة إن بعض الأمازيغ من الريفيين ينحدرون من الجنس الجرماني. ولقد أفاد كويين من انتمائه إلى عشيرة الريفيين؛ فقد مكن له الارتقاء سريعاً في سلالم التراتبية العسكرية. وكان، كسائر أولئك الذين كان يستخدمهم اعبابو، من المجندين السابقين في الجيش الفرنسي.
وكان كويين عمل في كثير من مناطق المغرب، الذي كان به خبيراً، كخبرته بالجزائر التي عمل فيها، على عهد الحماية، وهو بعد في الرابعة عشرة، في الفلاحة. فقد كان المعمرون يستخدمون، وقتها، كثيراً من الأيدي العاملة المغربية الموسمية، خاصة من منطقة الريف. وقد كان صاحبنا دائم التغني بالأغاني الشعبية الجزائرية، أو الأناشيد العسكرية، الرتيبة، في تصوير الحزن والأسى اللذين يتملكان القرويين بعد أن اقتُلعوا من أراضيهم، وانتزعوا من محاريثهم، ومن تقاليدهم العريقة، وقذِفوا في محيطات وفي عوالم لم يكونوا يعرفون بوجودها ولا سمعوا بها، ليوضعوا في مواجهة الموت. وإنني لآسف أن لم تسعفني ذاكرتي، أو لم أهتم كثيراً بتسجيل تلك الأنغام. فقد كانت تصور في أسلوب من السخرية الذكية، جانباً من تاريخنا. لكن كويين كان يختلف عن أفرد عصابة اعبابو، أو عصابة حرسه، في أنه لم يكن من الكوم، بل من الفرسان؛ أولئك الفرسان المتشحين بالبرنس الأبيض الفاره؛ الذين كانوا يمثلون الأرستقراطية العسكرية في الجيوش الاستعمارية الفرنسية. لكن حياتهم لم تكن بأجمل من حياة الآخرين، ولا أكثر هدوءاً. فقد كانوا، هم الآخرون، يلقون بأنفسهم، مخفضي الرؤوس، أمام فوهات مدافع العم هو، ويتخبطون بالجراءة نفسها في مستنقعات دلتا مويكونغ، ويصلون نصيبهم من الرعب. وقد وقع كويين في أسر الفييت، لكنه لقي، حسب ما كان يقول، ورفاقه منهم معاملة أفضل مما كان يلقى منهم أولئك الذين كانوا يسمونهم سادته الفرنسيين، ثم أخلوا سبيله ورفاقه بعد عملية غسل بسيطة للدماغ، أو على الأدق، بعد أن لقنوهم دروساً في الأخلاق السياسية - إن كان للأخلاق السياسية حقاً وجود - لتفتيح أعينهم وأذهانهم. فقد لقنوهم أنهم هم أيضاً مستعمَرون، وأن فرنسا عدوتهم المشتركة. لكن ينبغي الإقرار بأن عملية غسل الدماغ التي أعملها فيهم مستخدموهم كانت أبلغ وأنجع؛ ذلك بأن الغالبية العظمى منهم ظلت، إلا من بعض الحالات النادرة، مخلصة وفية لفرنسا.
فيكون كويين قد خبر الاعتقال من قبل أن يحل بتازمامرت. وشهد كيف كان نظراؤه يألمون، وكيف كانوا يموتون. بل كان ونظراؤه يؤتى بهم ليحضروا جلسات التعذيب وعمليات الإعدام لأجل أن يروا أن الناس جميعاً سواسية حقاً أمام الرعب وأمام الموت. وما عدا ذلك لا يعدو أن يكون مسألة كرامة، ليس إلا.
وقد بدا كويين، إذ هو في تازمامرت، في غاية المرونة، وبدا سهل المعاشرة، اجتماعياً، شديد الاحترام لأعراف البناية، وهي صفات كانت تستوجبها ظروف العيش في ذلك المعتقل. وكان يحكي لنا، في أسلوب يفيض سخرية، عن مغامراته في الجزائر وفي فييتنام، وحتى في أوروبا؛ إذ سبق له أن تجند بحامية في فرنسا، ثم في ألمانيا. وكان يعرف، كذلك، أن يلتزم الصمت، وذلك أمر كان بالغ الأهمية على الحياة المشتركة.
أسلم كويين الروح إلى بارئها في يوم وفاة الياكيدي أيضاً. وقد كان تردى،هو الآخر، إلى ما يشبه النوام والخمول؛ فما عاد يرد على نداءاتنا، ولا عاد يطعم شيئاً، وإلا فالنزر اليسير. تراه فقد الأمل؟ أم تراه كان يتعلق بما كان خلَّف وراءه؟ أم أن داء ألم به، فلم يتداركه بالعلاج، فكان يتأكله وينخر دخيلته؟ فقد ظل ينضني، وتسوء حالته شيئاً فشيئاً، إلى أن كانت وفاته في يوم 12 فبراير 1978 . ولربما كان الفقيد قد ألف الجوع. فقد كانت الرمال المتحركة في تازمامرت من أفظع فخاخها ومصائدها.
فالمرء إذا بقي بضعة أيام من غير أكل، فقدَ الشهية، ثم صار، بما يطول به الجوع، يشعر أنه في حال حسنة، بل في أحسن حال؛ إذ يستولي عليه خدرٌ لذيذ، أشبه بما تُحدث المخدرات. فلا يعود يفكر في الطعام. وقد خبرت هذه الحالة، عندما أصبت بانحصار للغاز؛ فانتفخت بطني كالكرة. وكنت أحس بضغط شديد عند الإست، لكن إذا ذهبت للتغوط بقيت أمعائي متصاممة، لا يحركها شيء. فقد كنت محصوراً بفعل كيس غازي كان يحصر الجهاز كله. ولم أكن أقوى على ابتلاع شيء. ثم اعتدت تلك الحالة، واعتدت الجوع. فكنت أشرب الماء جرعات صغيرة، وألبث معظم الوقت مضطجعاً على جنبي.
فلما كان اليوم الثامن، وفيما كنت، في وقت الظهيرة، متمدداً، إذا بي أسمع الآخرين يتكلمون كما لو من قرارة بئر. وكان غناء الطيور مخنوقاً. لم أكن أحلم، ولم أكن أفكر. كنت خاملاً. وفجأة، أحسست في أمعائي كيس غاز صغير يتنقل كفقاعة صغيرة تصعد من قعر كاس ماء. فتوقفت برهة عند حافة إستي، ثم انفلتت غير محسوسة، كأنما تخترق سطح السائل. فحبست أنفاسي. واتجهت بكياني كله نحو تلك المعجزة البخارية الصغيرة. فما عدت أعرف هل ينبغي لي أن أنعقد وأدفع، كفعل المرأة حين الوضع، أم أسترخي، وأخفف من الضغط، وأترك لجسمي أن يتولى بالباقي. فآثرت الحل الثاني؛ ووجدت فيه خيراً؛ فما هي إلا هنيهة حتى شعرت بفقاعة أخرى، ثم انفجرت، مثل سابقتها، وبقدر رقتها وخفتها، في الهواء الطلق. فصليت، وانتظرت. هل سيكون الخلاص؟ كنت موزعاً بين الخوف والرجاء، لكن سرعان ما انبثقت فقاعة ثالثة، فرابعة، ثم خامسة. وتسارع الإيقاع، فكان انفجاراً حقيقياً من حيث الصوت ومن حيث الرائحة. فلما انتهى ذلك الانفجار، صرت أخف من طائر، وعنَّ لي أن تلك كانت من أجمل لحظات حياتي. وهل السعادة إلا شيء نسبي! وبعد تلك المحنة، عدت بصورة طبيعية إلى المرحاض. والأقسى عليَّ كان أن أتقيأ ما آكل. فقد كان الأمر يقتضيني أن أشن حرباً على نفسي؛ حرباً مادية ومعنوية ونفسية، لكي أستطيع أن أطعم من جديد. لكن الحياة كانت تنبعث دائماً من حلكة اليأس.
كنت غارقاً في تلك الأحلام، عندما حمل الجنود كويين ليقبروه، عفواً بل ليرموه في الحفرة. فلما فرغوا من تلك المهمة الرهيبة، انصرفوا إلى حال سبيلهم، لكن ساد البناية، من بعدهم، جو ثقيل ومرير. ولم يكن الدعاء للميت بقدر ما يكون من القوة في العادة. فقد تلا أحد الرفاق بضع سور من القرآن، أنصتنا إليها يلجمنا صمت ثقيل يعج هواجس. ولما أن فرغ الحراس من عملية الدفن الأولى، عادوا ثانية. وفي خضم من الذهول الشامل، توجهوا رأساً إلى زنزانة الياكيدي. وما كان يمكن أن يكون لذلك الفعل منهم إلا تفسيرا واحدا؛ وما كنا نعرف به إلا قليلاً.
الياكيدي المحجوب، المعروف عند الجميع باسم مولاي المحجوب. ومولاي هو اللقب الذي يجعل للمنتسبين إلى الرسول، من الشرفاء. وأما هو فلم يكن له ذلك النسب، لكن بذلك كان يسمى على سبيل الانتقاص. وقد كان الياكيدي من فوجي. وكان شخصاً لافتاً. فقد كان يحشر أنفه في كل شيء بروح مراكشية خالصة تجعل حضوره، على الرغم من كل شيء، شيئاً رائعاً. لقد كان مراكشياً حتى النخاع. نشأ في المدينة العتيقة، فورث من خفة ناسها، ومن فكاهتهم المتفردة، وسخريتهم التي يرتجف لها كبرياء اللغة البراقة اللامعة. وكان يمزج ذلك كله بنبرة يتعمد أن يجعلها متثاقلة، وسرعة بديهة. وكان يحفظ، كذلك، عدداً كبيراً من الأمثال، والملح، والطرائف، جميلة وغير جميلة. فكان في معظم الأحيان، يمازح رفاقه، حتى في أحلك الأوقات. وكان كثيراً ما يردد مثلاً شعبياً : «الموت بين الأصحاب نزاهة». ثم كان أن أصيب بالإسهال؛ كمثل الغالبية من أولئك الذين كانوا يفرطون في شرب الماء الذي كان يقدم إلينا. فلما أحس بدنو أجله، أخبرنا بالأمر. فلم يفت رفاقه في الزنازن المجاورة لزنزانته، أن يتناولوه بالسخرية في هذا الموضوع، وهم يكررون على مسامعه القول الأثير عليه. ثم بدأ يهلك ببطء، كأنما يُفرغ، شيئاً فشيئاً، من نفسه؛ إلى أن كانت في يوم 12 فبراير 1978 .

الخميس، 4 فبراير 2021

تازْمامَّرْت .. تازْمامَوْت-8-

 تازْمامَّرْت .. تازْمامَوْت




كان القوري رفيقي في الفوج وصديقي. وقد بقينا صديقين إلى آخر يوم، على الرغم من مزاجينا المختلفين. فقد كان منطوياً على نفسه، صريحاً، تلوح عليه سيماء الأسى، كأنما ينوء بسر ثقيل. فلم يكد يتم العشرين حتى ابيض شعره، مما أضفي عليه هيئة من النضج والوقار. ومع ذلك فقد كان القوري يحب أن يكون له أصدقاء، لكنه لم يكن يقبل على الجميع. فقد كان ينتقي القلة القليلة من رفاقه بحرص وعناية شديدين، وقد كنت واحداً منهم. وأما الأصدقاء فلم أكن أعرف له غير واحد. فقد أقبل في تازمامرت على بوطو وأبنوسي وبحباح. وكمثل هذا الأخير، بدأت تأتي عليه هلوسات. فيتكلم الكلام الرصين، ويخوض في أحاديث متناسقة مترابطة، ويخيل إليه، من حين إلى آخر، أنه يرى أفعى داخل زنزانته. وعلى الرغم من أن صديقه بحباح قد كانت تأتي عليه الرؤى نفسها، فلقد صدقناه إلى ما كان يقول في المرات الأولى؛ لأن الأفاعي والعقارب والرتيلاءات كانت شيئاً شائعاً لدينا في الصيف. ومع ذلك، فما عدنا نستغرب لشيء في تازمامرت. وكان كل واحد منا يقدم رأيه في ما كان يقول، وكان أفضل رفاقه يضحكون من كلامه. لكن بتوالي الأيام، تفاقمت المشكلة. فإذا الأفعى قد صارت تزداد ضخامة وعظماً. فكان القوري يضرب تحت غطائه، ويحدثنا عن وزن الزاحف الذي يزحف فوق جسمه الجامد. وقد يرى، في أحيان أخرى، الحيوان الهائل يجول في ثقوب التهوية التي في زنزانته، أو يختبئ في المراحيض. فأدركنا حينها أنه قد بدأ يفقد رشده، لكن الأغرب في ذلك أنه كان هو نفسه مدركاً لما كان يحيق به. فقد كان في لحظات الصحو والتنبه يطلب النصيحة، فيقدم إليه كل واحد منا الحل الذي يراه. وقد كان الحل الشائع لدى الكثيرين أن يفوض أمره إلى الله ويلوذ بالقرآن الكريم. فقد كنا ننصحه بالإكثار ما استطاع من تلاوة سورتي «الفاتحة» و»ياسين». ثم تفاقم عليه الهذيان، فكان يرى أفاعي تزداد كثرة. ثم يشرع في التحدث إلى نفسه. فيخوض في أحاديث طويلة مع أبيه، كثيراً ما تكون مشوشة مضطربة. ثم انتقل إلى الطور الأشد خطورة، وإلى تلك اللحظة الحرجة؛ التي ينساق فيها المرء إلى الإذعان للموت، ذلك الاغتيال للعزيمة، وذلك الإضراب عن القتال، أو لمجرد الاستمرار في الحياة.
فلم يعد يطعم شيئاً، أو يتغطى بشيء، ونحن في فصل الشتاء؛ موسم حصاد الأرواح. وسرعان ما تنبهت إلى حالته، وقد كانت تأتي عليه ومضات من الصحو، فكنت أنصحه أن يقوم بالإيحاء الذاتي. فأطلب من جاره الجنُب موحى بوطو أن يجعل يكرر على مسامعه دون انقطاع : «ينبغي أن أتغطى»، «ينبغي أن آكل»، «ينبغي أن أعيش»، «ينبغي أن أقاوم». فجعل موحى يكرر على مسامعه تلك الجمل ولا يكل من ترديدها، لكن بات يعسر لفت انتباهه. فكان موحى يرتقي فوق إبريقه، ويتعلق بالثقوب، ويطلق عقيرته بالصياح، عساه ينتشل رفيقه من براثن الموت، ومخالب البرد، والجوع والجنون. كان موحى يتعب رئتيه من فرط الصياح، وإن لم تعد تسعفه قواه عليه. وأما القوري فأسلم الروح في يوم 6 فبراير 1977 .
وبعد شهرين، إذا الحصاد المشؤوم لتلك السنة 1977 يزداد ثقلاً، بوفاة وقعت، تلك المرة، في النصف الخاص بنا؛ وكان ضحيتها رابح بطيوي. وهو رقيب أول كان قائماً على السلاح، و»طياراً» سابقاً، ومع ذلك فقد كان لا يزال في ميعة الشباب! إنه شاب شجاع، ينحدر من ناحية وجدة؛ وكان، على غرار أهل هذه المنطقة، صلباً، وصريحاً، لكن كتوماً ومتحفظاً أيضاً. وقد كان وجاره الذي على اليسار، الحدان، والآخر المقابل، القصراوي، يشكلون مجموعة شبان حكماء، نبهاء بالقياس إلى أعمارهم، ومستواهم التعليمي، حسني التربية، خدومين للآخرين على الدوام.
بدأ بطيوي هو الأول يفقد رشده. وذات صباح، أخذ يتحدث عن جواسيس، وخونة وعملاء سريين. فلم نفقه، في البداية، شيئاً في تلك الحكايات، لكن سرعان ما أدركنا أن رفيقنا قد بدأ يفقد رشده. فكان يتحدث إلى رفاقه عن بعض زملائهم الذين لم يشتركوا في محاولة الانقلاب، فيحكي لهم كيف اكتشف أنهم كانوا جواسيس. ففلان كان عميلاً للمكتب الثاني، وقد دُسَّ هنالك ليعد تقارير عنهم، ويرسلهم إلى السجن، وعلاَّن كان مأجوراً للجزائريين بغرض تخريب العتاد. فلما فرغ من زملائه، انبرى يشن حربه على أفراد أسرته، الذين كانوا، هم الآخرون، داخلين في خدمة الشرطة، أو في خدمة وزارة الداخلية، أو في خدمة ما لا أعرف من القوى الخفية. لكنه لم يأت قط على ذكر شخص واحد من نزلاء البناية، في ما عدا بعض الحراس الذين كانوا عنده مأجورين للروس أن مأجورين للأمريكيين.
لقد باءت المحاولات المبذولة لانتشاله من فصامه بالفشل، فقد صار رويداً رويداً إلى انزواء في كنف من الشك والتطيُّر، وكان مرتاباً في الحراس الذين كانت مهمتهم أن يسمموه أو يغتالوه باستعمال مواد قد استخدمت فيها التقنيات المتقدمة.
لقد رفض أن يطعَم، فقد غلبت استيهاماته على غريزة البقاء لديه، فجاء الموت، تصحبه المحفة، رسولته الوفية، ليذهبا بصديقنا رابح في يوم 24 أبريل 1977 .
***
ما كان مدير السجن بالعميل السابق في وكالة الاستخبارات الأمريكية، أو في جهاز الاستخبارات السوفييتي السابق، ولا كان الشبح الذي يستحوذ على ذهن صديقي بطيوي المريض، بل كان قبطاناً يسمى القاضي، وهو جندي سابق في الكوم، من أولئك الجنود الذين كانوا يُنذرون للموت، قد ارتقى إلى مرتبة ضابط الصف في خدمة لفرنسا، وارتقى إلى مرتبة الضابط باعتباره الرجل المستعد لفعل أي شيء لخدمة النظام؛ ينفذ أحط المهام. وقد كان يومها حديث ترقية إلى مرتبة القائد لأجل حاجات القضية (تازمامرت)، ويتوقع له أن ينهي مساره المهني برتبة العقيد، وتلك أقصى مكافأة يحوزها عن الخدمات التي أسداها إلى الشيطان. وقد كان الشيطان بملامح العقيد الرهيب فضول، القائم السابق في الدرك على عهد الحماية، التي باعها روحه. فالجريمة مربحة في بلداننا.
وعندما مرض أول رفيق بيننا، ذهب الحراس يخبرون القاضي. فوبخهم، وحذرهم أن يأتوه من بعد ليخبروه بمرض سجين من السجناء، أو تعرضه لإصابة أو احتضاره. وقال لهم :
- لا تأتوا عندي إلا لتخبروني أنه مات.
التزم الحراس بالأمر، فما عادوا يزعجونه، ما عدا في حالة واحدة قد كانت سبباً في كثير من المنغصات. فلقد تكدر أولئك «المسلمون الصالحون» واغتاظوا مما كانوا يرون من ذلك المشهد المخل بالحياء؛ مشهد بعض العانات النحيلة من فرط الجوع. فاللباس الخفيف الذي حصلنا عليه عند وصولنا إلى تازمامرت لم يقو على مقاومة عوادي الزمن والاحتكاك اليومي لعجيزاتنا الهزيلة ببلاطة الإسمنت التي كانت لنا مرقداً ومقعداً ومذبحاً. وبتوالي السنين، إذا أسمالنا التي كانت لا تكاد تقينا البرد، ما عادت تسعفنا في إخفاء شعورنا بالإثم، والشعور بالفضيحة والعار الذي كان ينتابنا أن نُعرض كما تعرض الحيوانات. فكنت ترى بعض رفاقنا، في وقت تقديم الخدمة، يلفون كرامتهم في مزق الأغطية التي قاومت الزمن؛ وكان آخرون، كمثل بندورو، لا يقيمون وزناً لهذا الأمر . فقد كانوا يريدون أن يضعوا الحراس أمام مسؤولياتهم، وأن يعرضوا عليهم بؤسهم وأجسادهم العارية النحيلة، لكي يدفعوهم إلى أن يطلبوا إلى القائد مخرجاً محتشماً للمشكلة.
كان الحراس يكرهون خاصة جاري، لأنه كان يجبرهم على أن يتفرجوا، ثلاث مرات في اليوم الواحد، على صورته النحيلة السغبه.
فلما فتحوا باب زنزانته ليقدموا له الزاد، كان صحنه لا يزال في موضعه خلفه؛ فاستدار في بطء، وانحنى ليلتقطه، وهو يجيل فيهم النظر، ثم واصل حركته على الإيقاع نفسه، فأخذ طعامه، وهو يريهم وجهه البائس بقدر ما هو جسمه النحيل. فكان الحراس يرغون ويزبدون، ويشتمون، لكن لم يكن لديهم أي سبب وجيه ليعاقبوه. واكتفوا بالتعوذ من الشيطان ومن أتباعه.

تازْمامَّرْت .. تازْمامَوْت-7-

 تازْمامَّرْت .. تازْمامَوْت




ولد عزيز بنبين بمراكش سنة 1946 . عاش مخضرماً؛ يجمع بين المدرسة الفرنسية الحديثة والمدينة العتيقة في مراكش، وبين صرامة الأدب الحديث ومتخيَّل الحكاية الشرقية. أمضى عشرين سنة رهينَ السجن، سلخَ منها ثمانية عشرَ في معتقل تازمامَّرت.
فقد أُقحِم الضابط الشاب في المحاولة الانقلابية التي دارت وقائعها في قصر الصخيرات يوم 10 يوليوز 1971، ثم قُدم إلى محاكمة تعسفية، ليُلقَى به في المعتقل العسكري الرهيب، الذي نبت يومها في قلب الصحراء المغربية...
لقد أقبِر صاحبنا طوال عقدين من الزمن، في زنزانته رقم 13، التي لم تكن تزيد عن قبو إسمنتي بسعة مترين على ثلاثة. لا تطرقه عليه غير العقارب والأفاعي والرتيلاءات والصراصير. وظل المعتقل الشاب يكابد مصيره، كسيزيف وكأنتيغون. وظل يتسلح بإيمانه على مغالبة ذلك الجحيم، الذي يؤثثه العذاب والجنون والموت، ليس له فيه من وسيلة للاتصال بالحياة غير السمع، فجعل يكرس نفسه لرفاقه في المأساة، ويجعل من نفسه لهم حكاءً أو بائع أحلام...
ويعود عزيز بنبين، ههنا، ليرفع هذا القبر المؤلم الممض من الكلمات، تمجيداً لكل واحد من إخوته ضحايا تازمامرت. ويضع شهادة نفيسة عن كابوس سجني حديث. إنها قصة تضرب عميقاً في أغوار الطبيعة البشرية، وتشحذ قوة الإيمان والخيال الفائقة في مواجهة الوحشية الكاسرة.
بعد وفاة كينات وبحباح، خطرت ببالي فكرة ذكية، كان فيها إنقاذ لحيوات، وكانت سبباً في حدوث مشاحنات جديرة ببؤرة للصوص. فقد ناديت على المساعد أول فريح، وهو جندي سابق من الكوم، كمثل ما هم الحراس الآخرون. وقد كان يغلب الجبن لديه على الخبث والشر، وذلك عندي أسوأ وأخطر، لكن يمكن أن يكون نافعاً لو عرفنا كيف نباغته. فقد طلبت منه ألا يلقي برفيقي في حفرة الجير الحي وهو ملفوف في غطاءيه. وما كان على الحراس إلا أن يسحبوه، كما كانوا يفعلون في العادة، في غطاء واحد، وأن يسمحوا لي باسترداد الغطاء الثاني. وقد كانت مفاجأتي كبيرة أن رأيته يجيبني إلى ما طلبت. ثم بالغ في الكرم، فدخل زنزانة الفقيد، وجمع كل ما وقع فيها على خرق، وسلمها إليَّ.
لكن ما كاد الحراس يرحلون، حتى جاء عاشور يسألني غاضباً :
- يا أنت! بنبين، ماذا أعطاك المساعد أول؟
فلزمت الصمت. فقد كنت أعرفه حسوداً حتى النخاع. فكنت بالتزامي الصمت أزيده ضغطاً على ضغط. فلما انصرف، ناديت على الدغوغي وأخبرته بما دبرت. فراقته الفكرة، وكانت لنا مصدر سخرية ومزاح. لكني في ذلك اليوم اكتشفت جرة بندور؛ فقد صارت ما أن تُعلن وفاة، حتى تندلع حرب الخرق. فالجميع يرغبون في استرداد أسمال الفقيد. لقد كانت غريزة البقاء شيئاً مشروعاً، لكن الأساليب فيها كانت مختلفة متباينة. فبعض كان يتصرفون بحصافة وحياء، وبعض لم يكونوا يلقون بالاً إلى الأعراف الاجتماعية. ثم لم يلبث الحراس أن انخرطوا في تلك العملية، فصاروا يؤثرون بغطاء الفقيد جيرانه الجُنب، وأولئك الذين يحتمل أن يكونوا قدموا إليهم العون، وذلك شيء عادل تماماً.
لقد نبهني ذلك التنقل الذي كان يقع في الخرق إلى أمر : القوة التي تطورت بها حاسة الشم لدينا. فقد لاحظت أن كل خرقة من الخرق التي كانت تُتناقل بيننا كانت تحتفظ برائحة خاصة جداً، هي رائحة صاحبها. فصرت قادراً على أن أميز رائحة إنسان من آخر. فجعلت حينها أتسلى بتصنيف الروائح وأحفظها؛ روائح الموتى، وروائح الأحياء، أو على الأقل أولئك منهم الذين كنت أعيش وإياهم، وكانت لي معهم اتصالات ومبادلات. فالنقص الذي يصيب حاسة يصير قوة في الحواس الأخرى.
وقد اهتبل رفيق ماهر أحد الأيام النادرة التي كان يُسمح لنا فيها بكنس زنازننا، فانتزع قطعة معدنية من صفيحة القصدير التي كانت تستعمل لجمع الفضلات. فجعل يسنُّه، ليتخذ منه موسى يقطع به شعر رأسه ولحيته اللذين استطالا حتى صار بهما يبدو كواحد من سكان الكهوف، وتلك كانت الصورة التي صرنا إليها جميعاً. ثم صار لصاحبنا منافسون ومزاحمون، فصرنا ما أن تقيض لنا الفرصة، حتى نتدبر أمرنا لنفعل كما فعل. ثم جاء دوري، فوقعت على تلك الشفرة المزعومة، وأمضيت الساعات أشحذها على الصفحة الملساء الوحيدة في الزنزانة؛ البلاطة. فلما جربتها، أدركت لماذا كان المقبلون عليها قليلين؛ فقد كانت تنتزع الشعر أكثر بكثير مما تقطعه. فما استعملها إلا أشدنا عزيمة، وأما أشدنا رهافة، مثلي، فقد فضلوا الاحتفاظ بشعرهم.
بيد أن تلك الواقعة لم تخل من فائدة : فقد أوحت إلى آخر أن يصطنع من قطعة المعدن إبرة. فكنا نقطع اللُّسين أدق ما في الإمكان، ونجعل نحدد سنه بقطعة إسمنت نقتلعها من الحائط، ثم نجعل نحك وسط الطرف المقابل للسن إلى أن نثقبه، فنحصل على إبرة. وقد كان الأمر يتطلب وقتاً؛ كان يتطلب شهوراً من العمل والصبر وتحمل الفشل، ولحظات من الريبة واليأس، لكن النجاح كان هو مسك الختام. فلم يتفق لأحد أن تخلى عن «صخرت»ه. وقد كنا انتقلنا من عصر الحجارة ودخلنا عصر البرونز. فصرنا نخيط. فقد خطْنا أسمالنا، واتخذنا منها مشايات وصدريات. لم نكن نأكل موتانا، لكن كنا كمن يفعل الشيء نفسه : فقد كنا نلبس من مزق لحمهم.
كانت تلك القواقع الجديدة تقينا البرد شتاء، لكنها لم تكن لتقينا الزواحف صيفاً، وقد كانت تفد علينا من شتى الأنواع. كانت فيها الأفاعي، والرتيلاءات، والعقارب، وأنواع العظاءات والصراصير. لكن لم تكن تزورنا الحشرات؛ فلا ذباب، ولا ناموس، ولا براغيث، ولا بق، ولا قمل؛ فهذه الأخيرة تعتاش من الدم، والظاهر أنه لم يبق في بنايتنا دمٌ، أو أنه كان في غاية الفقر، بحيث ما عاد يستمل إليه تلك الحشرات، ولربما كان يمكن أن يسممها.
لقد تعلمنا أن نعيش مع تلك المخلوقات المزعجة. وقد حرمنا حاسة البصر، فصارت حواسنا الأخرى حادة مستنفرة؛ خاصة حاسة الشم وحاسة السمع. فصار بمقدورنا أن نميز الأصوات والروائح التي تعمر عزلتنا. وما أسرع ما أصبحنا نميز الحشرات من بعضها بما تحدث من ضجات، في ما عدا الرتيلاءات العظيمة التي لا يسمع لها صوت أو حفيف، لكن لم يتفق لإحداها أن دخلت علينا زنازننا. لذلك لم تكن خشيتنا منها بقدر خشيتنا من العقارب، التي أوقعت بيننا ضحايا. وكان من بين ضحاياها : التهامي أبنوسي، وهو شاب ينحدر من مدينة آسفي، وكان يعمل مراقباً جوياً. كان لطيفاً، ودوداً، وكان هادئاً فطناًً؛ يعرف أن يتكلم ويصمت في الوقت المناسب. وذات مساء، عند مقدم الليل، سمع صوتاً، فعرف بسهولة أنه لسقطة عقرب؛ فقد كانت الحشرة تتسلق الحائط بفضل خشونة الإسمنت المسلح، إلى أن تصل إلى السقف، وهناك تعجز أن تستدير، فتسقط أرضاً محدثة ضجة مصمة أين منها صوت سقوط الصراصير، هي التي كانت تتشبث جيداًَ بالسقف، فإذا اضطرت إلى السقوط آثرت أقصر السبل لتعاود النزول.
لذلك سمع أبنوسي سقطة العقرب، ثم حذرنا. فكان كلما طرأ خطر، تتجند البناية عن بكرة أبيها للبحث عن حل، أو لتقديم المساعدة النفسية أو الصوتية، وهما المساعدتان الوحيدتان الممكنتان في تلك اللحظة.
فإذا كانت الضجة قريبة جداً، كان يتدثر بغطائه، ولا يأتي بحركة، ويلبث متحملاً الاختناق في خضم الحر الجاف للأصياف في الصحراء. ثم لا يستعيد أنفاسه إلا متى سمع السقطة صارت بعيدة.
وتستمر تلك اللعبة حتى الصباح؛ فلا يغمض لشخص منا جفنٌ في تلك الليلة؛ فنحن نعيش على إيقاع واحد مع أبنوسي. ثم جاء الحراس، بعد ليلة من أطول الليالي التي مرت علينا في تازمامرت. ولم يسبق لنا أن فرحنا كمثل فرحنا في ذلك اليوم بمجيء الحراس. فلما فتحوا زنزانة رفيقنا، طلب منهم أن يتركوا الباب مفتوحاً على مصراعيه، لكي يتمكن من الاهتداء إلى مكان العقرب، ففعلوا مرغمين. وبعد هنيهة، أحست العقرب بالهواء البارد يأتي من الباب، فمضت نحوه. فلما رآها أبنوسي، لم يشأ أن يترك للحراس أن يسحقوها بأحذيتهم الغليظة، وهجم في حنق على الحشرة كأنما يبغي الانتقام مما تكبد طوال الليل، وأراد أن يهوي عليها بكل ثقله، ليسحقها. فما أصاب منها بما فضُل من صندله، لفرط تسرعه وتلك الظلمة المحيطة، غير مقدمها، وترك الذنب حراً طليقاً. وإذا العقرب تتحرك للدفاع عن نفسها، فتلدغه لدغة أودعته فيها جرعة كبيرة من السم. ومات العقرب، لكن أبنوسي أمضى ربع ساعة مريراً. ولقد توسلنا إلى الحراس أن يمدوا إليه يد المساعدة، وأن يدعو له ممرضاً، أو يصنعوا له وتارة على الأقل. لكنهم ظلوا، كالعادة، متصاممين عن توسلاتنا. وظل أبنوسي يتكبد أهوال السم طوال أربع وعشرين ساعة. لكنه لم يهلك فيه، ولا هلك حايفي، الذي تعرض هو الآخر للدغة عقرب. فما كان الموت في تازمامرت في عجلة من أمره.
وذات يوم، صاح أحد الرفاق في وجه حارس : «اقتلني إن كنت رجلاً!». فرد عليه الآخر : «لست أحمق لأسدي لك هذه الخدمة!».
ما كان القوري، كشأن بعض رفاقنا الآخرين، بالذي تلوح عليه سيماء المرض. بل كان كل شأنه أنه ضاق ذرعاً بحاله. فقد نفذت جميع وسائله، فما عاد يهتدي إلى شيء يتعلق به، ولا عاد القلب يسعفه بشيء. فكان يقتل نفسه. فما عادت عنده شهية إلى الطعام، ولا قوة على المقاومة. فاستسلم إلى الموت، كمثل الغزالة إذ تُحبس، وكانت وفاته في يوم 13 يناير 1977، بعد شهر من رحيل رفيقه القوري.

عزيز بنبين : تازْمامَّرْت .. تازْمامَوْت-6-

 عزيز بنبين : تازْمامَّرْت .. تازْمامَوْت




ولد عزيز بنبين بمراكش سنة 1946 . عاش مخضرماً؛ يجمع بين المدرسة الفرنسية الحديثة والمدينة العتيقة في مراكش، وبين صرامة الأدب الحديث ومتخيَّل الحكاية الشرقية. أمضى عشرين سنة رهينَ السجن، سلخَ منها ثمانية عشرَ في معتقل تازمامَّرت.
فقد أُقحِم الضابط الشاب في المحاولة الانقلابية التي دارت وقائعها في قصر الصخيرات يوم 10 يوليوز 1971، ثم قُدم إلى محاكمة تعسفية، ليُلقَى به في المعتقل العسكري الرهيب، الذي نبت يومها في قلب الصحراء المغربية...
لقد أقبِر صاحبنا طوال عقدين من الزمن، في زنزانته رقم 13، التي لم تكن تزيد عن قبو إسمنتي بسعة مترين على ثلاثة. لا تطرقه عليه غير العقارب والأفاعي والرتيلاءات والصراصير. وظل المعتقل الشاب يكابد مصيره، كسيزيف وكأنتيغون. وظل يتسلح بإيمانه على مغالبة ذلك الجحيم، الذي يؤثثه العذاب والجنون والموت، ليس له فيه من وسيلة للاتصال بالحياة غير السمع، فجعل يكرس نفسه لرفاقه في المأساة، ويجعل من نفسه لهم حكاءً أو بائع أحلام...
ويعود عزيز بنبين، ههنا، ليرفع هذا القبر المؤلم الممض من الكلمات، تمجيداً لكل واحد من إخوته ضحايا تازمامرت. ويضع شهادة نفيسة عن كابوس سجني حديث. إنها قصة تضرب عميقاً في أغوار الطبيعة البشرية، وتشحذ قوة الإيمان والخيال الفائقة في مواجهة الوحشية الكاسرة.
إن أول ما نستذكر من تازمامرت هم الرجال. أحياء وأمواتاً، وملائكة وشياطين، وحكماء ومجانين. رجال قذِفوا في عالم، فتساكنوا فيه مع أقصى الحدود وتآلفوا مع الأهوال. أولئك الرجال هم من أحرص على أن أرفع إليهم ههنا التحية، أولئك الذين ما عادوا بيننا ليحكوا عن أتراحهم وأفراحهم، وآلامهم وآمالهم. وبودي أن أحكي ما وسعني الصدق كيف عاشوا وكيف ماتوا، وأنقل تجاربهم على نحو ما عشته، وعلى نحو ما خبرتُها، إلى أسرهم، وإلى أولئك الذين "يحسون على وجوههم بالصفعة التي تلقاها آخرون".
من بين هؤلاء الرجال، جاري المقابل : إدريس الدغوغي.
إلا ما أغرب المصير الذي كان من نصيب هذا الذي ولد باسم قاسم. وكان أوبوه رجلاً عجوزاً قد تزوج من امرأة أولى أنجبت له أبناء كثراً؛ كان أكبرهم، والمسمى إدريس، في الأربعين عند مولد بطلنا. ثم لما صارت المرأة العجوز في سن لا تسمح لها بالإنجاب، دفعت بزوجها إلى التزوج من امرأة ثانية من القرية، قامت هي نفسها باختيارها، ومضت لخطبتها. وقالت له : "هي تلد، وأنا أربي".
وكذلك كان. فجاء صاحبنا قاسم إلى العالم محاطاً بحب امرأتين. وسرعان ما استأثرت زوجة الأب بالابن، حتى صار، بمضي الوقت، هو ابنها. والويل لمن يجرؤ على الاعتراض على مشيئتها! فصار الطفل قاسم يدعوها "ماما"، ويدعو أمه الحقيقية باسمها. وزاد القدر إمعاناً في السخرية أنه لما بلغ الطفل سن التمدرس، اشترطت "أم"ه أن يلتحق بالمدرسة، ولا يكون أمياً مثل أخوته الكبار. فلزم، لأجل ذلك، أن يكون للأسرة كناش للحالة المدنية. ولقد اجتهد الأب لتحقيق هذا الأمر، وقام بتسجيل الأبناء جميعاً لدى الإدارة، لولا أن خطأ وقع في تاريخ ميلاد قاسم وإدريس. فلما ذهب الطفل لطلب الحصول على نسخة من رسم الولادة للتسجيل في المدرسة، تبيَّن، ويا للغرابة، أنه كان في الخامسة والأربعين من العمر، وأنه، بالتالي، قد تجاوز سن التمدرس بكثير. ولزم لتصحيح ذلك الخطإ استصدار حكم من القاضي، وسلسلة طويلة من الإجراءات التي لا تخلو من تعقيد.
وكان الحل الذي بدا أنه الأيسر أن يتبادل الأخوان اسميهما. لذلك، أصبح قاسم، في سن الخامسة، يسمى إدريس. فورث اسم أخيه غير الشقيق، مثلما كان قد ورث من "أم"ه، وبذلك أمكن له أن يلتحق بالمدرسة.
ثم انخرط في الطيران الحربي، وذهب ليجري تداريبه في الولايات المتحدة. رحل ليكون طياراً. وقد كان كل شيء يشير إلى أنه يسير نحو الأفضل؛ فقد كان يجيد الإقلاع، ويجيد التحليق، ويجيد القيادة،. غير أنه لم يكن يفلح أبداً في النزول. فأُسقِط، ونُقِل إلى المراقبة الجوية.
وبقي الدغوغي يتجرع مرارته، ولا يجد سلواناً أن أصابته لعنة إيكار، وحكم عليه بأن يتحمل عقوبة طانطال : فكان يعلم الآخرين ما لم يستطع هو قط أن ينجزه : الهبوظ ! وصار يغرق إحباطه في الكحول، والقمار والنساء؛ عساها تنسيه خيبته. لقد باتت حياته محكومة بنظام غريب : فقد كان يشتغل أربعاً وعشرين ساعة في اليوم، يكون أثناءها معتدلاً قنوعاً، متفرغاً إلى عمله، ينجزه بذمة ونزاهة، فإذا حانت الساعات الثماني والأربعون التي يتحلل فيها من العمل، أصبح فاقد الوعي من فرط السكر، أو مرتمياً في حضن مومس. إلى أن ساق له القدر، في نهاية المطاف، مومساً شغفت به حباً، وجاءت لتشاركه بيته ولا تفارقه.
لقد وجدت المرأة مأوى، وإن يكن مؤقتاً، ورجلاً كانت تحسبه لها وحدها، وكرامة خادعة. ووجد فيها هو الآخر فائدة له؛ فقد كانت تعد له الطعام، وتنظف له ثيابه، وتغسل الأواني، وترتب البيت، ثم تشاركه الشرب، ولا تطلب مقابلاً. وقد كان ينفق أجره كله في القمار والكحول، فلم يكن يسأل قط من أين يأتي الطعام وما يتصل به من احتياجات البيت. واسمر الحال على هذه الصورة بضع سنوات، إلى أن قررت أمه، ذات يوم (زوجة أبيه) أن تصلح أمور حياته. فجاءت عنده، وأقنعته بالتزوج من فتاة من القرية قد اختارتها له. فوافقها إلى ما أرادت. ورأى، بسذاجته الكبيرة، أن من الطبيعي أن يرجع في الأمر إلى خليلته. فتلقت هذه الأخيرة الخبر كخنجر في الظهر. ولم تعلق بشيء، بل اقترحت، كذلك، أن تبقى بجانبه إلى أن يحين وقت الزفاف.
لقد صارت تعد لانتقامها بصبر، لكن بنجاعة. فجعلت، في البداية، تتردد على جميع الساحرات العجائز المشتغلات بشؤون المومسات؛ ذلك العالم الخاص بها، واختارت من قائمة السموم المحضرة ما به تخرب صحة عشيقها وتقضي عليها قضاء مبرماً، لكن من غير أن تقتله. واستخبرت من أخواتها عن رجل يكون مصاباً بالسفلس بدرجة متقدمة، ثم قصدته، وضاجعته إلى أن استيقنت أنها حملت منه العدوى، ثم عادت لتنقلها إلى العشيق الخائن. فتحقق له الانتقام.
وفي اليوم المحتوم، أعدت حقيبتها، وجاءت لتقول له بصوت هادئ، يكاد يخلو من أي أثر للضغينة، وهي تفكر في منافستها:
- وداعاً، لقد أورثتك بؤس وضعي كله!
وعلى الرغم من كل شيء، فقد تزوج إدريس قاسم الدغوغي، العاشق الخائن، والابن المدلل من زوجة أبيه. فوجد الاستقرار، ووجد الشرعية، لكن فقد صحته إلى غير رجعة. فقد كان يعاني من شقيقة مبرحة، وفقد الشهية، وإذا أكل، لم يستطع أن يحتفظ بشيء من الطعام في بطنه. لقد كان مصاباً بالسفلس من الدرجة الأخيرة، فلم يكن له حظ في الإنجاب.
وأما زوجته، فقد كانت فتاة قروية نشأت على التقاليد والاحترام، وهو شكل متنكر للخوف من الرجل، فرضيت بوضع الشهيدة الذي قضى عليها به القدر. وأما هو فجعل يغرق في الكحول، ومضادات الاكتئاب، ويفرط فيها. وأصبح مشتركاً في الخدمات النفسية في المستشفيات العسكرية. لكن الطب لم ينفعه بشيء. فقد كانت حالته مستعصية على العلاج، وكان يائساً، لا يعيش إلا ليهدئ من آلامه.
ثم كانت محاولة الانقلاب الثانية. وقد كان صاحبنا يومها في عطلة مرضية طويلة. ثم ما كاد يعود إلى استئناف عمله، حتى وقعت عليه تلك اللعنة القاضية. فأمضى السنة الأولى من اعتقاله في مستوصف السجن؛ حيث كان الطبيب يخفف عنه بما يحقنه من الفاليوم. وحينها وقع الانقلاب القدري، فنقل إلى تازمامرت. فكان يشغل الزنزانة التي قبالتي، فكان الرفاق الذين يعرفونه يتوقعون لجيرانه الأقربين أن يصطلوا بعذابه واضطرابه. فلم يحدث شيء من ذلك. لقد تعلق إدريس بالحياة وبي. فكنا نكثر من التحادث؛ فيحكي وأنصت متى طاب له الحكي آناء الليل والنهار. وأذِن له الرفاق العارفون بحالته في البداية، أن يتكلم آناء الليل، فكان يدعوني، فنتعاون على تخليصه من الهواجس التي تهجم عليه. وكنت أجتهد في اقناعه بأن ذلك المس عنده قد نجم عن جسمه المفتقر إلى المخدرات، فسلم بالأمر، ورضي به؛ فلم يكن له من خيار. ففي تازمامرت لم يكن لأحد من خيار. والتصرف الوحيد الممكن كان المقاومة الذهنية. فقد كان يلزمنا أن نصون كرامتنا إلى آخر رمق، كيفما كانت الأوضاع والمواقف. فذلك شيءٌ لم يكن بمقدور أحد أن يسلبنا إياه! ولقد نجا إدريس بحياته من تازمامرت. فلما وصل السجناء الأفارقة، تم نقله إلى البناية رقم 1؛ حيث تخلص من تلك المحنة بلباقة. فلما خرج، أجرى بعض الفحوصات والتحاليل الطبية، و... تحقق له الشفاء من السفلس!
وها إنه اليوم قد اجتمع بزوجته التي ظلت على انتظاره. فما عاد بحاجة إلى أدوية، لكنه لا يزال عاجزاً عن الإنجاب.
إن الدغوغي هو الشيء الذي أفخر به في مقامي بتازمامرت. ولو كان لأجله وحده، لما كان لي أن أندم أن أقمت فيها، ولكان لي مصدر فخار لامراء فيه.
لقد كنا نعيش في خندق مغلق، فكنا نساعد بعضنا، فنخرج منه معاً، أو نلبث فيه معاً.
ومن بين رفاقي الأقربين إليَّ، فإن الذي على يميني هو وحده الذي لم يكن يشاركني هذا الرأي. كان يعيش متوحداً، ويعيش في خضم من الحقد والموجدة، فأحال حياته إلى جحيم. ولسوف أعود إليه في النهاية، كان يدعى بدورو. وعلى يساري، كان يوجد الرقيب عبد العزيز اعبابو؛ تلك الفراشة التي احترقت أجنحتها من اصطلائها بنور أخويه الأكبرين. وفي قبالته، كان يوجد عاشور؛ الذي كان كأنه شخصية خارجة من أسوأ استيهامات دوستويفسكي.
ذلك هو المحيط البشري الذي كان عليَّ أن أواجهه، وقد كنت أراه يعكس الروح المغربية بما جُبلت عليه من حيل والتواءات، وأراه يعكس لي صورتي أيضاً. ولقد تعلمت من اتصالي بجيراني أن أتعرف المهم من التافه وأميز الدائم من العابر والزائل. وتعلمت أن أتجاوز عن الغضب والحقد، وأحاول أن أفهم، وأصفح؛ ولا أجرؤ أن أقول إنني تعلمت أن أحب! فالحب يجتذبني ويخيفني في آن. لقد تعلمته من دراسة الإنجيل، والاتصال بالمسيح. فأنا مسلم مقتنع بإسلامي وأحب المسيح، أرفض بعض المبادئ والقواعد في المسيحية، لكني معجب بنبيها، لأنه علمني معنى حب القريب، والصفح والتصاغُر.
كانت دائرة أحلامي كثيراً ما يعمرها الأنبياء، ولربما تكون تلك نتيجة لحفظنا للقرآن الذي يتحدث عنهم جميعاً. ومن بعد عيسى، فإن النبي المفضل عندي هو موسى. وقد كان كثيراً ما يتردد عليَّ في رواي، فتجمعنا أحاديث طويلة. لقد كان يمثل عندي القوة، والمهابة والعدل. وهي الصورة التي يجعلها له القرآن. وقد كانت تستخفني نحوهما مشاعر مختلفة. فموسى أشعر نحوه بالصداقة. وكنت أرى كذلك إبراهيم، ويوسف، وداود، وسليمان، وغيرهم كثراً. وأما محمد، فقد منحني الحرية في الاعتقاد، وممارسة من غير وسائط.
وأذكر بوجه خاص أنني، ذات مساء، رأيت حلماً كان له عليَّ تأثير كبير، وقد احتفظت به لنفسي، كمثل ما كنت أفعل بأحلام أخرى، أو ببعض الأفكار التي كنت أراها خاصة بي. فقد كان عندي بستان سري؛ ركن من نفسي لا يطرقه عليَّ أحد. فقد رأيتني راقداً فوق بلاطتي، في وضعتي المعتادة، وفجأة إذا بي أستيقظ (في الحلم دائماً). فرأيت عند قدمي يقف رجل طويل القامة متلفعاً في البياض، ينظر إليَّ نظرة ملؤها الطيبة. فنظرت إليه بدوري، في صمت، وأطلت إليه النظر، مسحوراً بذلك النور المنبعث منه، ثم اضطجعت ثانية، في سلام، وسرعان ما غلبني النوم.
لقد خيل إليَّ في اليوم الموالي أنها كانت رؤيا. فقد رأيت المسيح بشخصه. غير أني لا أصدق المعجزات. ولا أزال، إلى اليوم، على قناعتي أنه ما كان سوى حلم، لكنه كان لي مصدر متعة كبيرة، تلك كانت معجزة الإيحاء الذاتي.
لم يتفق لي قط أن رأيت النبي محمداً في رؤاي؛ ربما لأن بعض المفسرين يحظرون ظهوره بالصورة. ولقد بلغت هذه المحظورات من الترسخ في لاوعينا حتى لقد صرنا نعجز أن ننتهكها، ولو في الحلم.
كان الحلم يمنحنا راحة وسلاماً؛ فبعد كل شيء، ما هم أولئك الأنبياء، وأديانهم، ومعتقداتهم، ومثُلهم. إن ما كان يهمنا هو ما كانوا يمثلون : الحب، والرأفة، والعدل، والخير، أي كل ما يدخل في الجمال. لقد كان الدين في تصوري في غاية البساطة، وكان عندي حاضراً، في ما يتجاوز العقائد، ويتجاوز الأناسي، الذين يحيلونه إلى شيء بالغ التعقيد، ضارب في العبث واللامعقول.

حكايات السعدنى الحلقة السادسة عن الجنرال المغربي محمد اوفقير

حكايات السعدنى الحلقة السادسة عن الجنرال المغربي محمد اوفقير