الجمعة، 5 فبراير 2021

عزيز بنيين : تازْمامَّرْت .. تازْمامَوْت9-

 عزيز بنيين : تازْمامَّرْت .. تازْمامَوْت




ولد عزيز بنبين بمراكش سنة 1946 . عاش مخضرماً؛ يجمع بين المدرسة الفرنسية الحديثة والمدينة العتيقة في مراكش، وبين صرامة الأدب الحديث ومتخيَّل الحكاية الشرقية. أمضى عشرين سنة رهينَ السجن، سلخَ منها ثمانية عشرَ في معتقل تازمامَّرت.
فقد أُقحِم الضابط الشاب في المحاولة الانقلابية التي دارت وقائعها في قصر الصخيرات يوم 10 يوليوز 1971، ثم قُدم إلى محاكمة تعسفية، ليُلقَى به في المعتقل العسكري الرهيب، الذي نبت يومها في قلب الصحراء المغربية...
لقد أقبِر صاحبنا طوال عقدين من الزمن، في زنزانته رقم 13، التي لم تكن تزيد عن قبو إسمنتي بسعة مترين على ثلاثة. لا تطرقه عليه غير العقارب والأفاعي والرتيلاءات والصراصير. وظل المعتقل الشاب يكابد مصيره، كسيزيف وكأنتيغون. وظل يتسلح بإيمانه على مغالبة ذلك الجحيم، الذي يؤثثه العذاب والجنون والموت، ليس له فيه من وسيلة للاتصال بالحياة غير السمع، فجعل يكرس نفسه لرفاقه في المأساة، ويجعل من نفسه لهم حكاءً أو بائع أحلام...
ويعود عزيز بنبين، ههنا، ليرفع هذا القبر المؤلم الممض من الكلمات، تمجيداً لكل واحد من إخوته ضحايا تازمامرت. ويضع شهادة نفيسة عن كابوس سجني حديث. إنها قصة تضرب عميقاً في أغوار الطبيعة البشرية، وتشحذ قوة الإيمان والخيال الفائقة في مواجهة الوحشية الكاسرة.
استمر الموت يوقع فينا ضرباته القاصمة. وتراكمت علينا الأحلام المنذرة، وباتت البومة تصر على العودة كل مساء لتذكرنا بأن الحصاد كان لا يزال في أوله، وكانت رائحة الموت، بعد رحيل ثلاثة من رفاقنا، لا تزال تغلف المكان. وقد أشاع ذلك كله حيرة وريبة في البناية. فلم نعد نعرف من ذا الذي بيننا سيقوم بالرحلة الكبرى، ومن ذا الذي سيكون التالي في اللائحة. وما كنا نعلم أن الموت، الساخر المتعجرف، أراد أن يظهر لنا تفوقه، فيستهدفنا بضربة مزدوجة؛ فيوقع بيننا ضحيتين في يوم واحد : كويين والعايدي.
فأما كويين عماروش فقد كان ريفياً قصير القامة وضامراً. وكان يتميز بعينين براقتين، ضاربتين لوناً إلى الزرقة، وسحنة سمراء تنطوي على جلد ناصع البياض. لقد كانت سيماه الأوروبية تؤكد، عن صواب أو خطإ، تلك الأطروحة القائلة إن بعض الأمازيغ من الريفيين ينحدرون من الجنس الجرماني. ولقد أفاد كويين من انتمائه إلى عشيرة الريفيين؛ فقد مكن له الارتقاء سريعاً في سلالم التراتبية العسكرية. وكان، كسائر أولئك الذين كان يستخدمهم اعبابو، من المجندين السابقين في الجيش الفرنسي.
وكان كويين عمل في كثير من مناطق المغرب، الذي كان به خبيراً، كخبرته بالجزائر التي عمل فيها، على عهد الحماية، وهو بعد في الرابعة عشرة، في الفلاحة. فقد كان المعمرون يستخدمون، وقتها، كثيراً من الأيدي العاملة المغربية الموسمية، خاصة من منطقة الريف. وقد كان صاحبنا دائم التغني بالأغاني الشعبية الجزائرية، أو الأناشيد العسكرية، الرتيبة، في تصوير الحزن والأسى اللذين يتملكان القرويين بعد أن اقتُلعوا من أراضيهم، وانتزعوا من محاريثهم، ومن تقاليدهم العريقة، وقذِفوا في محيطات وفي عوالم لم يكونوا يعرفون بوجودها ولا سمعوا بها، ليوضعوا في مواجهة الموت. وإنني لآسف أن لم تسعفني ذاكرتي، أو لم أهتم كثيراً بتسجيل تلك الأنغام. فقد كانت تصور في أسلوب من السخرية الذكية، جانباً من تاريخنا. لكن كويين كان يختلف عن أفرد عصابة اعبابو، أو عصابة حرسه، في أنه لم يكن من الكوم، بل من الفرسان؛ أولئك الفرسان المتشحين بالبرنس الأبيض الفاره؛ الذين كانوا يمثلون الأرستقراطية العسكرية في الجيوش الاستعمارية الفرنسية. لكن حياتهم لم تكن بأجمل من حياة الآخرين، ولا أكثر هدوءاً. فقد كانوا، هم الآخرون، يلقون بأنفسهم، مخفضي الرؤوس، أمام فوهات مدافع العم هو، ويتخبطون بالجراءة نفسها في مستنقعات دلتا مويكونغ، ويصلون نصيبهم من الرعب. وقد وقع كويين في أسر الفييت، لكنه لقي، حسب ما كان يقول، ورفاقه منهم معاملة أفضل مما كان يلقى منهم أولئك الذين كانوا يسمونهم سادته الفرنسيين، ثم أخلوا سبيله ورفاقه بعد عملية غسل بسيطة للدماغ، أو على الأدق، بعد أن لقنوهم دروساً في الأخلاق السياسية - إن كان للأخلاق السياسية حقاً وجود - لتفتيح أعينهم وأذهانهم. فقد لقنوهم أنهم هم أيضاً مستعمَرون، وأن فرنسا عدوتهم المشتركة. لكن ينبغي الإقرار بأن عملية غسل الدماغ التي أعملها فيهم مستخدموهم كانت أبلغ وأنجع؛ ذلك بأن الغالبية العظمى منهم ظلت، إلا من بعض الحالات النادرة، مخلصة وفية لفرنسا.
فيكون كويين قد خبر الاعتقال من قبل أن يحل بتازمامرت. وشهد كيف كان نظراؤه يألمون، وكيف كانوا يموتون. بل كان ونظراؤه يؤتى بهم ليحضروا جلسات التعذيب وعمليات الإعدام لأجل أن يروا أن الناس جميعاً سواسية حقاً أمام الرعب وأمام الموت. وما عدا ذلك لا يعدو أن يكون مسألة كرامة، ليس إلا.
وقد بدا كويين، إذ هو في تازمامرت، في غاية المرونة، وبدا سهل المعاشرة، اجتماعياً، شديد الاحترام لأعراف البناية، وهي صفات كانت تستوجبها ظروف العيش في ذلك المعتقل. وكان يحكي لنا، في أسلوب يفيض سخرية، عن مغامراته في الجزائر وفي فييتنام، وحتى في أوروبا؛ إذ سبق له أن تجند بحامية في فرنسا، ثم في ألمانيا. وكان يعرف، كذلك، أن يلتزم الصمت، وذلك أمر كان بالغ الأهمية على الحياة المشتركة.
أسلم كويين الروح إلى بارئها في يوم وفاة الياكيدي أيضاً. وقد كان تردى،هو الآخر، إلى ما يشبه النوام والخمول؛ فما عاد يرد على نداءاتنا، ولا عاد يطعم شيئاً، وإلا فالنزر اليسير. تراه فقد الأمل؟ أم تراه كان يتعلق بما كان خلَّف وراءه؟ أم أن داء ألم به، فلم يتداركه بالعلاج، فكان يتأكله وينخر دخيلته؟ فقد ظل ينضني، وتسوء حالته شيئاً فشيئاً، إلى أن كانت وفاته في يوم 12 فبراير 1978 . ولربما كان الفقيد قد ألف الجوع. فقد كانت الرمال المتحركة في تازمامرت من أفظع فخاخها ومصائدها.
فالمرء إذا بقي بضعة أيام من غير أكل، فقدَ الشهية، ثم صار، بما يطول به الجوع، يشعر أنه في حال حسنة، بل في أحسن حال؛ إذ يستولي عليه خدرٌ لذيذ، أشبه بما تُحدث المخدرات. فلا يعود يفكر في الطعام. وقد خبرت هذه الحالة، عندما أصبت بانحصار للغاز؛ فانتفخت بطني كالكرة. وكنت أحس بضغط شديد عند الإست، لكن إذا ذهبت للتغوط بقيت أمعائي متصاممة، لا يحركها شيء. فقد كنت محصوراً بفعل كيس غازي كان يحصر الجهاز كله. ولم أكن أقوى على ابتلاع شيء. ثم اعتدت تلك الحالة، واعتدت الجوع. فكنت أشرب الماء جرعات صغيرة، وألبث معظم الوقت مضطجعاً على جنبي.
فلما كان اليوم الثامن، وفيما كنت، في وقت الظهيرة، متمدداً، إذا بي أسمع الآخرين يتكلمون كما لو من قرارة بئر. وكان غناء الطيور مخنوقاً. لم أكن أحلم، ولم أكن أفكر. كنت خاملاً. وفجأة، أحسست في أمعائي كيس غاز صغير يتنقل كفقاعة صغيرة تصعد من قعر كاس ماء. فتوقفت برهة عند حافة إستي، ثم انفلتت غير محسوسة، كأنما تخترق سطح السائل. فحبست أنفاسي. واتجهت بكياني كله نحو تلك المعجزة البخارية الصغيرة. فما عدت أعرف هل ينبغي لي أن أنعقد وأدفع، كفعل المرأة حين الوضع، أم أسترخي، وأخفف من الضغط، وأترك لجسمي أن يتولى بالباقي. فآثرت الحل الثاني؛ ووجدت فيه خيراً؛ فما هي إلا هنيهة حتى شعرت بفقاعة أخرى، ثم انفجرت، مثل سابقتها، وبقدر رقتها وخفتها، في الهواء الطلق. فصليت، وانتظرت. هل سيكون الخلاص؟ كنت موزعاً بين الخوف والرجاء، لكن سرعان ما انبثقت فقاعة ثالثة، فرابعة، ثم خامسة. وتسارع الإيقاع، فكان انفجاراً حقيقياً من حيث الصوت ومن حيث الرائحة. فلما انتهى ذلك الانفجار، صرت أخف من طائر، وعنَّ لي أن تلك كانت من أجمل لحظات حياتي. وهل السعادة إلا شيء نسبي! وبعد تلك المحنة، عدت بصورة طبيعية إلى المرحاض. والأقسى عليَّ كان أن أتقيأ ما آكل. فقد كان الأمر يقتضيني أن أشن حرباً على نفسي؛ حرباً مادية ومعنوية ونفسية، لكي أستطيع أن أطعم من جديد. لكن الحياة كانت تنبعث دائماً من حلكة اليأس.
كنت غارقاً في تلك الأحلام، عندما حمل الجنود كويين ليقبروه، عفواً بل ليرموه في الحفرة. فلما فرغوا من تلك المهمة الرهيبة، انصرفوا إلى حال سبيلهم، لكن ساد البناية، من بعدهم، جو ثقيل ومرير. ولم يكن الدعاء للميت بقدر ما يكون من القوة في العادة. فقد تلا أحد الرفاق بضع سور من القرآن، أنصتنا إليها يلجمنا صمت ثقيل يعج هواجس. ولما أن فرغ الحراس من عملية الدفن الأولى، عادوا ثانية. وفي خضم من الذهول الشامل، توجهوا رأساً إلى زنزانة الياكيدي. وما كان يمكن أن يكون لذلك الفعل منهم إلا تفسيرا واحدا؛ وما كنا نعرف به إلا قليلاً.
الياكيدي المحجوب، المعروف عند الجميع باسم مولاي المحجوب. ومولاي هو اللقب الذي يجعل للمنتسبين إلى الرسول، من الشرفاء. وأما هو فلم يكن له ذلك النسب، لكن بذلك كان يسمى على سبيل الانتقاص. وقد كان الياكيدي من فوجي. وكان شخصاً لافتاً. فقد كان يحشر أنفه في كل شيء بروح مراكشية خالصة تجعل حضوره، على الرغم من كل شيء، شيئاً رائعاً. لقد كان مراكشياً حتى النخاع. نشأ في المدينة العتيقة، فورث من خفة ناسها، ومن فكاهتهم المتفردة، وسخريتهم التي يرتجف لها كبرياء اللغة البراقة اللامعة. وكان يمزج ذلك كله بنبرة يتعمد أن يجعلها متثاقلة، وسرعة بديهة. وكان يحفظ، كذلك، عدداً كبيراً من الأمثال، والملح، والطرائف، جميلة وغير جميلة. فكان في معظم الأحيان، يمازح رفاقه، حتى في أحلك الأوقات. وكان كثيراً ما يردد مثلاً شعبياً : «الموت بين الأصحاب نزاهة». ثم كان أن أصيب بالإسهال؛ كمثل الغالبية من أولئك الذين كانوا يفرطون في شرب الماء الذي كان يقدم إلينا. فلما أحس بدنو أجله، أخبرنا بالأمر. فلم يفت رفاقه في الزنازن المجاورة لزنزانته، أن يتناولوه بالسخرية في هذا الموضوع، وهم يكررون على مسامعه القول الأثير عليه. ثم بدأ يهلك ببطء، كأنما يُفرغ، شيئاً فشيئاً، من نفسه؛ إلى أن كانت في يوم 12 فبراير 1978 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حكايات السعدنى الحلقة السادسة عن الجنرال المغربي محمد اوفقير

حكايات السعدنى الحلقة السادسة عن الجنرال المغربي محمد اوفقير