الخميس، 4 فبراير 2021

تازْمامَّرْت .. تازْمامَوْت-8-

 تازْمامَّرْت .. تازْمامَوْت




كان القوري رفيقي في الفوج وصديقي. وقد بقينا صديقين إلى آخر يوم، على الرغم من مزاجينا المختلفين. فقد كان منطوياً على نفسه، صريحاً، تلوح عليه سيماء الأسى، كأنما ينوء بسر ثقيل. فلم يكد يتم العشرين حتى ابيض شعره، مما أضفي عليه هيئة من النضج والوقار. ومع ذلك فقد كان القوري يحب أن يكون له أصدقاء، لكنه لم يكن يقبل على الجميع. فقد كان ينتقي القلة القليلة من رفاقه بحرص وعناية شديدين، وقد كنت واحداً منهم. وأما الأصدقاء فلم أكن أعرف له غير واحد. فقد أقبل في تازمامرت على بوطو وأبنوسي وبحباح. وكمثل هذا الأخير، بدأت تأتي عليه هلوسات. فيتكلم الكلام الرصين، ويخوض في أحاديث متناسقة مترابطة، ويخيل إليه، من حين إلى آخر، أنه يرى أفعى داخل زنزانته. وعلى الرغم من أن صديقه بحباح قد كانت تأتي عليه الرؤى نفسها، فلقد صدقناه إلى ما كان يقول في المرات الأولى؛ لأن الأفاعي والعقارب والرتيلاءات كانت شيئاً شائعاً لدينا في الصيف. ومع ذلك، فما عدنا نستغرب لشيء في تازمامرت. وكان كل واحد منا يقدم رأيه في ما كان يقول، وكان أفضل رفاقه يضحكون من كلامه. لكن بتوالي الأيام، تفاقمت المشكلة. فإذا الأفعى قد صارت تزداد ضخامة وعظماً. فكان القوري يضرب تحت غطائه، ويحدثنا عن وزن الزاحف الذي يزحف فوق جسمه الجامد. وقد يرى، في أحيان أخرى، الحيوان الهائل يجول في ثقوب التهوية التي في زنزانته، أو يختبئ في المراحيض. فأدركنا حينها أنه قد بدأ يفقد رشده، لكن الأغرب في ذلك أنه كان هو نفسه مدركاً لما كان يحيق به. فقد كان في لحظات الصحو والتنبه يطلب النصيحة، فيقدم إليه كل واحد منا الحل الذي يراه. وقد كان الحل الشائع لدى الكثيرين أن يفوض أمره إلى الله ويلوذ بالقرآن الكريم. فقد كنا ننصحه بالإكثار ما استطاع من تلاوة سورتي «الفاتحة» و»ياسين». ثم تفاقم عليه الهذيان، فكان يرى أفاعي تزداد كثرة. ثم يشرع في التحدث إلى نفسه. فيخوض في أحاديث طويلة مع أبيه، كثيراً ما تكون مشوشة مضطربة. ثم انتقل إلى الطور الأشد خطورة، وإلى تلك اللحظة الحرجة؛ التي ينساق فيها المرء إلى الإذعان للموت، ذلك الاغتيال للعزيمة، وذلك الإضراب عن القتال، أو لمجرد الاستمرار في الحياة.
فلم يعد يطعم شيئاً، أو يتغطى بشيء، ونحن في فصل الشتاء؛ موسم حصاد الأرواح. وسرعان ما تنبهت إلى حالته، وقد كانت تأتي عليه ومضات من الصحو، فكنت أنصحه أن يقوم بالإيحاء الذاتي. فأطلب من جاره الجنُب موحى بوطو أن يجعل يكرر على مسامعه دون انقطاع : «ينبغي أن أتغطى»، «ينبغي أن آكل»، «ينبغي أن أعيش»، «ينبغي أن أقاوم». فجعل موحى يكرر على مسامعه تلك الجمل ولا يكل من ترديدها، لكن بات يعسر لفت انتباهه. فكان موحى يرتقي فوق إبريقه، ويتعلق بالثقوب، ويطلق عقيرته بالصياح، عساه ينتشل رفيقه من براثن الموت، ومخالب البرد، والجوع والجنون. كان موحى يتعب رئتيه من فرط الصياح، وإن لم تعد تسعفه قواه عليه. وأما القوري فأسلم الروح في يوم 6 فبراير 1977 .
وبعد شهرين، إذا الحصاد المشؤوم لتلك السنة 1977 يزداد ثقلاً، بوفاة وقعت، تلك المرة، في النصف الخاص بنا؛ وكان ضحيتها رابح بطيوي. وهو رقيب أول كان قائماً على السلاح، و»طياراً» سابقاً، ومع ذلك فقد كان لا يزال في ميعة الشباب! إنه شاب شجاع، ينحدر من ناحية وجدة؛ وكان، على غرار أهل هذه المنطقة، صلباً، وصريحاً، لكن كتوماً ومتحفظاً أيضاً. وقد كان وجاره الذي على اليسار، الحدان، والآخر المقابل، القصراوي، يشكلون مجموعة شبان حكماء، نبهاء بالقياس إلى أعمارهم، ومستواهم التعليمي، حسني التربية، خدومين للآخرين على الدوام.
بدأ بطيوي هو الأول يفقد رشده. وذات صباح، أخذ يتحدث عن جواسيس، وخونة وعملاء سريين. فلم نفقه، في البداية، شيئاً في تلك الحكايات، لكن سرعان ما أدركنا أن رفيقنا قد بدأ يفقد رشده. فكان يتحدث إلى رفاقه عن بعض زملائهم الذين لم يشتركوا في محاولة الانقلاب، فيحكي لهم كيف اكتشف أنهم كانوا جواسيس. ففلان كان عميلاً للمكتب الثاني، وقد دُسَّ هنالك ليعد تقارير عنهم، ويرسلهم إلى السجن، وعلاَّن كان مأجوراً للجزائريين بغرض تخريب العتاد. فلما فرغ من زملائه، انبرى يشن حربه على أفراد أسرته، الذين كانوا، هم الآخرون، داخلين في خدمة الشرطة، أو في خدمة وزارة الداخلية، أو في خدمة ما لا أعرف من القوى الخفية. لكنه لم يأت قط على ذكر شخص واحد من نزلاء البناية، في ما عدا بعض الحراس الذين كانوا عنده مأجورين للروس أن مأجورين للأمريكيين.
لقد باءت المحاولات المبذولة لانتشاله من فصامه بالفشل، فقد صار رويداً رويداً إلى انزواء في كنف من الشك والتطيُّر، وكان مرتاباً في الحراس الذين كانت مهمتهم أن يسمموه أو يغتالوه باستعمال مواد قد استخدمت فيها التقنيات المتقدمة.
لقد رفض أن يطعَم، فقد غلبت استيهاماته على غريزة البقاء لديه، فجاء الموت، تصحبه المحفة، رسولته الوفية، ليذهبا بصديقنا رابح في يوم 24 أبريل 1977 .
***
ما كان مدير السجن بالعميل السابق في وكالة الاستخبارات الأمريكية، أو في جهاز الاستخبارات السوفييتي السابق، ولا كان الشبح الذي يستحوذ على ذهن صديقي بطيوي المريض، بل كان قبطاناً يسمى القاضي، وهو جندي سابق في الكوم، من أولئك الجنود الذين كانوا يُنذرون للموت، قد ارتقى إلى مرتبة ضابط الصف في خدمة لفرنسا، وارتقى إلى مرتبة الضابط باعتباره الرجل المستعد لفعل أي شيء لخدمة النظام؛ ينفذ أحط المهام. وقد كان يومها حديث ترقية إلى مرتبة القائد لأجل حاجات القضية (تازمامرت)، ويتوقع له أن ينهي مساره المهني برتبة العقيد، وتلك أقصى مكافأة يحوزها عن الخدمات التي أسداها إلى الشيطان. وقد كان الشيطان بملامح العقيد الرهيب فضول، القائم السابق في الدرك على عهد الحماية، التي باعها روحه. فالجريمة مربحة في بلداننا.
وعندما مرض أول رفيق بيننا، ذهب الحراس يخبرون القاضي. فوبخهم، وحذرهم أن يأتوه من بعد ليخبروه بمرض سجين من السجناء، أو تعرضه لإصابة أو احتضاره. وقال لهم :
- لا تأتوا عندي إلا لتخبروني أنه مات.
التزم الحراس بالأمر، فما عادوا يزعجونه، ما عدا في حالة واحدة قد كانت سبباً في كثير من المنغصات. فلقد تكدر أولئك «المسلمون الصالحون» واغتاظوا مما كانوا يرون من ذلك المشهد المخل بالحياء؛ مشهد بعض العانات النحيلة من فرط الجوع. فاللباس الخفيف الذي حصلنا عليه عند وصولنا إلى تازمامرت لم يقو على مقاومة عوادي الزمن والاحتكاك اليومي لعجيزاتنا الهزيلة ببلاطة الإسمنت التي كانت لنا مرقداً ومقعداً ومذبحاً. وبتوالي السنين، إذا أسمالنا التي كانت لا تكاد تقينا البرد، ما عادت تسعفنا في إخفاء شعورنا بالإثم، والشعور بالفضيحة والعار الذي كان ينتابنا أن نُعرض كما تعرض الحيوانات. فكنت ترى بعض رفاقنا، في وقت تقديم الخدمة، يلفون كرامتهم في مزق الأغطية التي قاومت الزمن؛ وكان آخرون، كمثل بندورو، لا يقيمون وزناً لهذا الأمر . فقد كانوا يريدون أن يضعوا الحراس أمام مسؤولياتهم، وأن يعرضوا عليهم بؤسهم وأجسادهم العارية النحيلة، لكي يدفعوهم إلى أن يطلبوا إلى القائد مخرجاً محتشماً للمشكلة.
كان الحراس يكرهون خاصة جاري، لأنه كان يجبرهم على أن يتفرجوا، ثلاث مرات في اليوم الواحد، على صورته النحيلة السغبه.
فلما فتحوا باب زنزانته ليقدموا له الزاد، كان صحنه لا يزال في موضعه خلفه؛ فاستدار في بطء، وانحنى ليلتقطه، وهو يجيل فيهم النظر، ثم واصل حركته على الإيقاع نفسه، فأخذ طعامه، وهو يريهم وجهه البائس بقدر ما هو جسمه النحيل. فكان الحراس يرغون ويزبدون، ويشتمون، لكن لم يكن لديهم أي سبب وجيه ليعاقبوه. واكتفوا بالتعوذ من الشيطان ومن أتباعه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حكايات السعدنى الحلقة السادسة عن الجنرال المغربي محمد اوفقير

حكايات السعدنى الحلقة السادسة عن الجنرال المغربي محمد اوفقير