الخميس، 4 فبراير 2021

عزيز بنبين : تازْمامَّرْت .. تازْمامَوْت-6-

 عزيز بنبين : تازْمامَّرْت .. تازْمامَوْت




ولد عزيز بنبين بمراكش سنة 1946 . عاش مخضرماً؛ يجمع بين المدرسة الفرنسية الحديثة والمدينة العتيقة في مراكش، وبين صرامة الأدب الحديث ومتخيَّل الحكاية الشرقية. أمضى عشرين سنة رهينَ السجن، سلخَ منها ثمانية عشرَ في معتقل تازمامَّرت.
فقد أُقحِم الضابط الشاب في المحاولة الانقلابية التي دارت وقائعها في قصر الصخيرات يوم 10 يوليوز 1971، ثم قُدم إلى محاكمة تعسفية، ليُلقَى به في المعتقل العسكري الرهيب، الذي نبت يومها في قلب الصحراء المغربية...
لقد أقبِر صاحبنا طوال عقدين من الزمن، في زنزانته رقم 13، التي لم تكن تزيد عن قبو إسمنتي بسعة مترين على ثلاثة. لا تطرقه عليه غير العقارب والأفاعي والرتيلاءات والصراصير. وظل المعتقل الشاب يكابد مصيره، كسيزيف وكأنتيغون. وظل يتسلح بإيمانه على مغالبة ذلك الجحيم، الذي يؤثثه العذاب والجنون والموت، ليس له فيه من وسيلة للاتصال بالحياة غير السمع، فجعل يكرس نفسه لرفاقه في المأساة، ويجعل من نفسه لهم حكاءً أو بائع أحلام...
ويعود عزيز بنبين، ههنا، ليرفع هذا القبر المؤلم الممض من الكلمات، تمجيداً لكل واحد من إخوته ضحايا تازمامرت. ويضع شهادة نفيسة عن كابوس سجني حديث. إنها قصة تضرب عميقاً في أغوار الطبيعة البشرية، وتشحذ قوة الإيمان والخيال الفائقة في مواجهة الوحشية الكاسرة.
إن أول ما نستذكر من تازمامرت هم الرجال. أحياء وأمواتاً، وملائكة وشياطين، وحكماء ومجانين. رجال قذِفوا في عالم، فتساكنوا فيه مع أقصى الحدود وتآلفوا مع الأهوال. أولئك الرجال هم من أحرص على أن أرفع إليهم ههنا التحية، أولئك الذين ما عادوا بيننا ليحكوا عن أتراحهم وأفراحهم، وآلامهم وآمالهم. وبودي أن أحكي ما وسعني الصدق كيف عاشوا وكيف ماتوا، وأنقل تجاربهم على نحو ما عشته، وعلى نحو ما خبرتُها، إلى أسرهم، وإلى أولئك الذين "يحسون على وجوههم بالصفعة التي تلقاها آخرون".
من بين هؤلاء الرجال، جاري المقابل : إدريس الدغوغي.
إلا ما أغرب المصير الذي كان من نصيب هذا الذي ولد باسم قاسم. وكان أوبوه رجلاً عجوزاً قد تزوج من امرأة أولى أنجبت له أبناء كثراً؛ كان أكبرهم، والمسمى إدريس، في الأربعين عند مولد بطلنا. ثم لما صارت المرأة العجوز في سن لا تسمح لها بالإنجاب، دفعت بزوجها إلى التزوج من امرأة ثانية من القرية، قامت هي نفسها باختيارها، ومضت لخطبتها. وقالت له : "هي تلد، وأنا أربي".
وكذلك كان. فجاء صاحبنا قاسم إلى العالم محاطاً بحب امرأتين. وسرعان ما استأثرت زوجة الأب بالابن، حتى صار، بمضي الوقت، هو ابنها. والويل لمن يجرؤ على الاعتراض على مشيئتها! فصار الطفل قاسم يدعوها "ماما"، ويدعو أمه الحقيقية باسمها. وزاد القدر إمعاناً في السخرية أنه لما بلغ الطفل سن التمدرس، اشترطت "أم"ه أن يلتحق بالمدرسة، ولا يكون أمياً مثل أخوته الكبار. فلزم، لأجل ذلك، أن يكون للأسرة كناش للحالة المدنية. ولقد اجتهد الأب لتحقيق هذا الأمر، وقام بتسجيل الأبناء جميعاً لدى الإدارة، لولا أن خطأ وقع في تاريخ ميلاد قاسم وإدريس. فلما ذهب الطفل لطلب الحصول على نسخة من رسم الولادة للتسجيل في المدرسة، تبيَّن، ويا للغرابة، أنه كان في الخامسة والأربعين من العمر، وأنه، بالتالي، قد تجاوز سن التمدرس بكثير. ولزم لتصحيح ذلك الخطإ استصدار حكم من القاضي، وسلسلة طويلة من الإجراءات التي لا تخلو من تعقيد.
وكان الحل الذي بدا أنه الأيسر أن يتبادل الأخوان اسميهما. لذلك، أصبح قاسم، في سن الخامسة، يسمى إدريس. فورث اسم أخيه غير الشقيق، مثلما كان قد ورث من "أم"ه، وبذلك أمكن له أن يلتحق بالمدرسة.
ثم انخرط في الطيران الحربي، وذهب ليجري تداريبه في الولايات المتحدة. رحل ليكون طياراً. وقد كان كل شيء يشير إلى أنه يسير نحو الأفضل؛ فقد كان يجيد الإقلاع، ويجيد التحليق، ويجيد القيادة،. غير أنه لم يكن يفلح أبداً في النزول. فأُسقِط، ونُقِل إلى المراقبة الجوية.
وبقي الدغوغي يتجرع مرارته، ولا يجد سلواناً أن أصابته لعنة إيكار، وحكم عليه بأن يتحمل عقوبة طانطال : فكان يعلم الآخرين ما لم يستطع هو قط أن ينجزه : الهبوظ ! وصار يغرق إحباطه في الكحول، والقمار والنساء؛ عساها تنسيه خيبته. لقد باتت حياته محكومة بنظام غريب : فقد كان يشتغل أربعاً وعشرين ساعة في اليوم، يكون أثناءها معتدلاً قنوعاً، متفرغاً إلى عمله، ينجزه بذمة ونزاهة، فإذا حانت الساعات الثماني والأربعون التي يتحلل فيها من العمل، أصبح فاقد الوعي من فرط السكر، أو مرتمياً في حضن مومس. إلى أن ساق له القدر، في نهاية المطاف، مومساً شغفت به حباً، وجاءت لتشاركه بيته ولا تفارقه.
لقد وجدت المرأة مأوى، وإن يكن مؤقتاً، ورجلاً كانت تحسبه لها وحدها، وكرامة خادعة. ووجد فيها هو الآخر فائدة له؛ فقد كانت تعد له الطعام، وتنظف له ثيابه، وتغسل الأواني، وترتب البيت، ثم تشاركه الشرب، ولا تطلب مقابلاً. وقد كان ينفق أجره كله في القمار والكحول، فلم يكن يسأل قط من أين يأتي الطعام وما يتصل به من احتياجات البيت. واسمر الحال على هذه الصورة بضع سنوات، إلى أن قررت أمه، ذات يوم (زوجة أبيه) أن تصلح أمور حياته. فجاءت عنده، وأقنعته بالتزوج من فتاة من القرية قد اختارتها له. فوافقها إلى ما أرادت. ورأى، بسذاجته الكبيرة، أن من الطبيعي أن يرجع في الأمر إلى خليلته. فتلقت هذه الأخيرة الخبر كخنجر في الظهر. ولم تعلق بشيء، بل اقترحت، كذلك، أن تبقى بجانبه إلى أن يحين وقت الزفاف.
لقد صارت تعد لانتقامها بصبر، لكن بنجاعة. فجعلت، في البداية، تتردد على جميع الساحرات العجائز المشتغلات بشؤون المومسات؛ ذلك العالم الخاص بها، واختارت من قائمة السموم المحضرة ما به تخرب صحة عشيقها وتقضي عليها قضاء مبرماً، لكن من غير أن تقتله. واستخبرت من أخواتها عن رجل يكون مصاباً بالسفلس بدرجة متقدمة، ثم قصدته، وضاجعته إلى أن استيقنت أنها حملت منه العدوى، ثم عادت لتنقلها إلى العشيق الخائن. فتحقق له الانتقام.
وفي اليوم المحتوم، أعدت حقيبتها، وجاءت لتقول له بصوت هادئ، يكاد يخلو من أي أثر للضغينة، وهي تفكر في منافستها:
- وداعاً، لقد أورثتك بؤس وضعي كله!
وعلى الرغم من كل شيء، فقد تزوج إدريس قاسم الدغوغي، العاشق الخائن، والابن المدلل من زوجة أبيه. فوجد الاستقرار، ووجد الشرعية، لكن فقد صحته إلى غير رجعة. فقد كان يعاني من شقيقة مبرحة، وفقد الشهية، وإذا أكل، لم يستطع أن يحتفظ بشيء من الطعام في بطنه. لقد كان مصاباً بالسفلس من الدرجة الأخيرة، فلم يكن له حظ في الإنجاب.
وأما زوجته، فقد كانت فتاة قروية نشأت على التقاليد والاحترام، وهو شكل متنكر للخوف من الرجل، فرضيت بوضع الشهيدة الذي قضى عليها به القدر. وأما هو فجعل يغرق في الكحول، ومضادات الاكتئاب، ويفرط فيها. وأصبح مشتركاً في الخدمات النفسية في المستشفيات العسكرية. لكن الطب لم ينفعه بشيء. فقد كانت حالته مستعصية على العلاج، وكان يائساً، لا يعيش إلا ليهدئ من آلامه.
ثم كانت محاولة الانقلاب الثانية. وقد كان صاحبنا يومها في عطلة مرضية طويلة. ثم ما كاد يعود إلى استئناف عمله، حتى وقعت عليه تلك اللعنة القاضية. فأمضى السنة الأولى من اعتقاله في مستوصف السجن؛ حيث كان الطبيب يخفف عنه بما يحقنه من الفاليوم. وحينها وقع الانقلاب القدري، فنقل إلى تازمامرت. فكان يشغل الزنزانة التي قبالتي، فكان الرفاق الذين يعرفونه يتوقعون لجيرانه الأقربين أن يصطلوا بعذابه واضطرابه. فلم يحدث شيء من ذلك. لقد تعلق إدريس بالحياة وبي. فكنا نكثر من التحادث؛ فيحكي وأنصت متى طاب له الحكي آناء الليل والنهار. وأذِن له الرفاق العارفون بحالته في البداية، أن يتكلم آناء الليل، فكان يدعوني، فنتعاون على تخليصه من الهواجس التي تهجم عليه. وكنت أجتهد في اقناعه بأن ذلك المس عنده قد نجم عن جسمه المفتقر إلى المخدرات، فسلم بالأمر، ورضي به؛ فلم يكن له من خيار. ففي تازمامرت لم يكن لأحد من خيار. والتصرف الوحيد الممكن كان المقاومة الذهنية. فقد كان يلزمنا أن نصون كرامتنا إلى آخر رمق، كيفما كانت الأوضاع والمواقف. فذلك شيءٌ لم يكن بمقدور أحد أن يسلبنا إياه! ولقد نجا إدريس بحياته من تازمامرت. فلما وصل السجناء الأفارقة، تم نقله إلى البناية رقم 1؛ حيث تخلص من تلك المحنة بلباقة. فلما خرج، أجرى بعض الفحوصات والتحاليل الطبية، و... تحقق له الشفاء من السفلس!
وها إنه اليوم قد اجتمع بزوجته التي ظلت على انتظاره. فما عاد بحاجة إلى أدوية، لكنه لا يزال عاجزاً عن الإنجاب.
إن الدغوغي هو الشيء الذي أفخر به في مقامي بتازمامرت. ولو كان لأجله وحده، لما كان لي أن أندم أن أقمت فيها، ولكان لي مصدر فخار لامراء فيه.
لقد كنا نعيش في خندق مغلق، فكنا نساعد بعضنا، فنخرج منه معاً، أو نلبث فيه معاً.
ومن بين رفاقي الأقربين إليَّ، فإن الذي على يميني هو وحده الذي لم يكن يشاركني هذا الرأي. كان يعيش متوحداً، ويعيش في خضم من الحقد والموجدة، فأحال حياته إلى جحيم. ولسوف أعود إليه في النهاية، كان يدعى بدورو. وعلى يساري، كان يوجد الرقيب عبد العزيز اعبابو؛ تلك الفراشة التي احترقت أجنحتها من اصطلائها بنور أخويه الأكبرين. وفي قبالته، كان يوجد عاشور؛ الذي كان كأنه شخصية خارجة من أسوأ استيهامات دوستويفسكي.
ذلك هو المحيط البشري الذي كان عليَّ أن أواجهه، وقد كنت أراه يعكس الروح المغربية بما جُبلت عليه من حيل والتواءات، وأراه يعكس لي صورتي أيضاً. ولقد تعلمت من اتصالي بجيراني أن أتعرف المهم من التافه وأميز الدائم من العابر والزائل. وتعلمت أن أتجاوز عن الغضب والحقد، وأحاول أن أفهم، وأصفح؛ ولا أجرؤ أن أقول إنني تعلمت أن أحب! فالحب يجتذبني ويخيفني في آن. لقد تعلمته من دراسة الإنجيل، والاتصال بالمسيح. فأنا مسلم مقتنع بإسلامي وأحب المسيح، أرفض بعض المبادئ والقواعد في المسيحية، لكني معجب بنبيها، لأنه علمني معنى حب القريب، والصفح والتصاغُر.
كانت دائرة أحلامي كثيراً ما يعمرها الأنبياء، ولربما تكون تلك نتيجة لحفظنا للقرآن الذي يتحدث عنهم جميعاً. ومن بعد عيسى، فإن النبي المفضل عندي هو موسى. وقد كان كثيراً ما يتردد عليَّ في رواي، فتجمعنا أحاديث طويلة. لقد كان يمثل عندي القوة، والمهابة والعدل. وهي الصورة التي يجعلها له القرآن. وقد كانت تستخفني نحوهما مشاعر مختلفة. فموسى أشعر نحوه بالصداقة. وكنت أرى كذلك إبراهيم، ويوسف، وداود، وسليمان، وغيرهم كثراً. وأما محمد، فقد منحني الحرية في الاعتقاد، وممارسة من غير وسائط.
وأذكر بوجه خاص أنني، ذات مساء، رأيت حلماً كان له عليَّ تأثير كبير، وقد احتفظت به لنفسي، كمثل ما كنت أفعل بأحلام أخرى، أو ببعض الأفكار التي كنت أراها خاصة بي. فقد كان عندي بستان سري؛ ركن من نفسي لا يطرقه عليَّ أحد. فقد رأيتني راقداً فوق بلاطتي، في وضعتي المعتادة، وفجأة إذا بي أستيقظ (في الحلم دائماً). فرأيت عند قدمي يقف رجل طويل القامة متلفعاً في البياض، ينظر إليَّ نظرة ملؤها الطيبة. فنظرت إليه بدوري، في صمت، وأطلت إليه النظر، مسحوراً بذلك النور المنبعث منه، ثم اضطجعت ثانية، في سلام، وسرعان ما غلبني النوم.
لقد خيل إليَّ في اليوم الموالي أنها كانت رؤيا. فقد رأيت المسيح بشخصه. غير أني لا أصدق المعجزات. ولا أزال، إلى اليوم، على قناعتي أنه ما كان سوى حلم، لكنه كان لي مصدر متعة كبيرة، تلك كانت معجزة الإيحاء الذاتي.
لم يتفق لي قط أن رأيت النبي محمداً في رؤاي؛ ربما لأن بعض المفسرين يحظرون ظهوره بالصورة. ولقد بلغت هذه المحظورات من الترسخ في لاوعينا حتى لقد صرنا نعجز أن ننتهكها، ولو في الحلم.
كان الحلم يمنحنا راحة وسلاماً؛ فبعد كل شيء، ما هم أولئك الأنبياء، وأديانهم، ومعتقداتهم، ومثُلهم. إن ما كان يهمنا هو ما كانوا يمثلون : الحب، والرأفة، والعدل، والخير، أي كل ما يدخل في الجمال. لقد كان الدين في تصوري في غاية البساطة، وكان عندي حاضراً، في ما يتجاوز العقائد، ويتجاوز الأناسي، الذين يحيلونه إلى شيء بالغ التعقيد، ضارب في العبث واللامعقول.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حكايات السعدنى الحلقة السادسة عن الجنرال المغربي محمد اوفقير

حكايات السعدنى الحلقة السادسة عن الجنرال المغربي محمد اوفقير