الخميس، 4 فبراير 2021

تازْمامَّرْت .. تازْمامَوْت-5-

 تازْمامَّرْت .. تازْمامَوْت




ولد عزيز بنبين بمراكش سنة 1946 . عاش مخضرماً؛ يجمع بين المدرسة الفرنسية الحديثة والمدينة العتيقة في مراكش، وبين صرامة الأدب الحديث ومتخيَّل الحكاية الشرقية. أمضى عشرين سنة رهينَ السجن، سلخَ منها ثمانية عشرَ في معتقل تازمامَّرت.
فقد أُقحِم الضابط الشاب في المحاولة الانقلابية التي دارت وقائعها في قصر الصخيرات يوم 10 يوليوز 1971، ثم قُدم إلى محاكمة تعسفية، ليُلقَى به في المعتقل العسكري الرهيب، الذي نبت يومها في قلب الصحراء المغربية...
لقد أقبِر صاحبنا طوال عقدين من الزمن، في زنزانته رقم 13، التي لم تكن تزيد عن قبو إسمنتي بسعة مترين على ثلاثة. لا تطرقه عليه غير العقارب والأفاعي والرتيلاءات والصراصير. وظل المعتقل الشاب يكابد مصيره، كسيزيف وكأنتيغون. وظل يتسلح بإيمانه على مغالبة ذلك الجحيم، الذي يؤثثه العذاب والجنون والموت، ليس له فيه من وسيلة للاتصال بالحياة غير السمع، فجعل يكرس نفسه لرفاقه في المأساة، ويجعل من نفسه لهم حكاءً أو بائع أحلام...
ويعود عزيز بنبين، ههنا، ليرفع هذا القبر المؤلم الممض من الكلمات، تمجيداً لكل واحد من إخوته ضحايا تازمامرت. ويضع شهادة نفيسة عن كابوس سجني حديث. إنها قصة تضرب عميقاً في أغوار الطبيعة البشرية، وتشحذ قوة الإيمان والخيال الفائقة في مواجهة الوحشية الكاسرة.
القبو الذي أُنزلت فيه لم يكن يزيد عن مكعب من الإسمنت والظلام بحجم مترين على ثلاثة؛ لم يكن بمقدور ضوء النهار الباهت أن يبدد ظلمتها تماماً. وفي العمق توجد بلاطة إسمنتية، تقوم مقام المقعد. وفي الزاوية، على مقربة من الباب، توجد مراحيض تركية. وتطل على الردهة ثلاثة صفوف من الثقوب بحجم عشر سنتيمترات، قد جعلت في أعلى الحائط، بعلو مترين ونصف. ويتوسط السقف ثقب من الحجم نفسه، يسمح بمرور الهواء. كان الثقب يطل على ما يشبه الحظيرة، بعلو نحو متر وثمانين، تشكل طابقاً من فوق الزنازن. إن هذا الطابق، الذي لم يكن بوسعنا إلا أن نتكهن به، ولا نراه، كان مغطى بسقف من المطلية المتموجة، وقد زود في جانبيه بفتحات عليها قضبان تصيرها إلى مربعات. كانت أبواب الزنازن تطل على ردهة تتوسطها، وتخترق البناية كلها. ويتوسط سقفها شقٌّ عليه قضبان من الفولاذ، كان هو مصدرنا الوحيد وغير المباشر من الهواء والنور.
ها أنذا في مقامي الجديد. وما كنت، قبل ذلك اليوم، أعرف التطيُّر، على الأقل في ما يتعلق بالتواريخ والأرقام. لكنني ابتُليت بالتطير، كسائر الناس الذين نهشتهم المصائب.
ما أن أوصد عليَّ الباب حتى اكتنفتني الظلمة. وخيَّم صمت ثقيل. وخرست حتى العصافير. وما أفلحت ضجة أحذية الجنود والانصفاق الحاد للأبواب أن تقوِّض الفراغ الذي هيمن على روحي وعلى فكري. جعلت أنظر إلى الثقب، وأنا لا أصدق نفسي. لقد جعلني أفكر في دياميس المسيحيين. فكرة جعلتني أبتسم. وكأن للموت ديناً!
لقد وعيت بوضعيتي : "ماذا فعلت بنفسك يا هذا!...". لقد كنت في ما يبدو أنه قبري.
كانت الزنزانة رقم "ثلاثة عشر" أسوأ الزنازن. فقد كانت المراحيض التركية من غير رشَّاف، فكانت زنزانتي تغص برائحة مزاريب البنايتين، فتشتد عليها النتانة، حتى إذا فتح الحراس عليَّ الباب ليقدموا إليَّ قوتي اليومي، كانوا لا يتمالكون أنفسهم، إذا صفعتهم هبة الهواء النتن، أن يتراجعوا إلى الوراء. وكان السقف منخرقاً كغربال، فإذا أمطرت استحالت الزنزانة دشاً حقيقياً. فإذا توقف المطر في الخارج، ظلت تمطر في زنزانتي لما لا يقل عن أسبوع آخر، إلى أن تجف بركة الماء المتجمع فوق السطح. وفي الشتاء تنخفض الحرارة إلى ما دون الصفر، فتصير الزنزانة شيئاً لا يطاق.
كانت الزنزانة خالية مقفرة، إلا من بلاطة من الإسمنت، وغطاءين عسكريين يعودان إلى سنة 1936، قد بليا حتى تسللت خيوطهما. وعلى الأرض وضع إناء للماء بسعة خمسة لترات، وصحن وقنينة من البلاستيك.
لقد لزمني أن أنفعل بسرعة، وأتخذ قرارات جذرية، وأقتلع من ذهني كل تساؤل، وكل ما يمكن أن يكبله، أو يشله، أو يجذبه إلى الأسفل، وإلى لجج الندم واليأس.
فلما سمعت الأقفال تنصفق كأنها الصنجات، أدركت أننا سنمكث في ذلك المكان لوقت غير يسير. فعقدت العزم على أن أنسى الخارج. فلم تعد لي أسرة، ولا أصدقاء، ولا ذكريات خاصة، ولا مستقبل. لقد كنت في ذلك المكان، وليس في غير ذلك المكان. كانت زنزانتي هي عالمي، ورفاقي في النكبة، ومجتمعي، وثقافتي وعقيدتي، وكل ثرائي. ولم يعد بد من الاستسلام، ونسيان الأسباب والكيفيات؛ ولزمني أن أقبل، أولاً، بما كنت أسميه الأحكام الثلاثة.
حكم بني البشر، الذين وصلت إلى ذلك المكان بإرادتهم، والذي قررت ألا أحتج عليه، ذلك بأنني قد دخلت مسلحاً، ولو برغم أنفي، بيتَ رجل، وانتهكت خصوصيته، وهدوء أسرته وأطفاله. ويقال في ثقافتنا : "الهاجم يموت شرعْ!". وأحرى أن أقول إنه يموت بكل مشروعية.
وحكم السماء، الذي رضيت به كمحنة، أو اختبار، أو بلوى. بلواي. فما الحياة عندي إلا اختبار عابر. فمن الناس من يهبهم الله كل شيء، ومنهم من يحرمهم كل شيء؛ وينظر في ردود أفعالهم جميعاً. وإنني لعلى يقين أنني لو وهبني الله كل شيء، لكنت فشلت، ولكنت اليوم جنرالاً عجوزاً أكرش، مدمناً للكحول، وفاسداً.
ثم حكمي أنا على نفسي : فأنا مسؤول عن المصير الذي كان من نصيبي، فلا يمكنني إلا أن أقر بذنبي. لقد كنت سيزيف وأنتيغون معاً، وكنت مستسلماً وشجاعاً. وبعد هذه المحاكمات الثلاث، ألغيت أناي، وتبدد عندي السؤال عن الأسباب؛ فصار بوسعي، حينها، أن أعيش وأصمد، وأعض على الحاضر بالنواجذ، وأن أكون أنا المقرر في مصيري.
في الخارج، توقفت ضجات العساكر فجأة، فما عدت تسمع غير هرير محركات الشاحنات وهي تبتعد، منسحبة بما بقي عندي من شك وارتياب في مصيري.
تصرم النهار متثاقلاً، وأصبح الصمت أشد وطأة؛ فكأن الزمن توقف، والحياة تجمدت. حتى العصافير أصرت على البقاء خرساء، يحتشد صمتها بكل الاحتمالات. ثم ارتفع صوت، خجول، يحمله الصدى خلال الحيطان الباردة الصماء، فكأنما يبحث في الإسمنت المسلح عن شق أو موضع رحيم يسكن إليه. ثم تلاه صوت آخر، وآخر، وبدأت تنتشر الأسئلة، ثم تلتها أجوبة لم يكن يتوقعها أحد؛ أسماء مجهولة، وأصوات شوهاء، وذلك الإسمنت القاسي الذي كان، كمصاص دماء استبد به الجوع لقرون من القحط، فهو يشرب بنهم تلك المزق من حيوات. ثم إذا العصافير قد باغتها عناد الطبيعة والتفاؤل القدري من بني البشر، فإذا هي تتغلب على خوفها، وتنخرط في ذلك الشغب العام.
في الزوال جاء الحراس، فدفعوا إلينا بخبزة من نحو مائة غرام، وصحن به حمص مطبوخ في الماء مع شيء من الملح. وستكون تلك هي وجبتنا الدائمة والثابتة في تازمامرت، مع طعام عشاء قوامه صحن عجائن مطبوخة هي الأخرى في ماء مع قليل من الملح.
لقد جرى نقلنا في عز شهر غشت، فحصلنا جميعاً على سراويل وقمصان كاكية؛ فتلك كانت الكسوة العسكرية التقليدية لفترة الصيف. وجرِّدنا من اللباس المخطط الذي هو لباس السجن المدني. لكننا احتفظنا بالصندل البلاستيكي الذي كنا نلبسه عند وصولنا. استبدلنا ثيابنا في شيء من الاغتباط. فقد كنا نشعر في قرارة أنفسنا بالارتياح أن تخلصنا من لباس العار، إلى لباس آخر محترم نسبياً، هو اللباس العسكري الذي كنا لا نزال به متعلقين. وكان يخيل إلينا، على الرغم من فظاعة تلك الأمكنة، أننا قد استعدنا احتراماً ظاهراً؛ ذلك بأن الأقسى من بين كل ما فقدنا، وقد فقدنا كل شيء، كان فقداننا لكرامتنا. بيد أن ذلك الوهم بالاحترام المستعاد، بعودتنا إلى حضن كيان عسكري، لن يدوم طويلاً. إننا لم نتراجع إلا لنتمكن من القفز طويلاً... إلى الهاوية.
وابتداء من مطلع شهر أكتوبر، بدأت الحرارة في الانخفاض. فبعد أن اصطلينا بحر الصيف الخانق، سنصير نخبر أهوال الشتاء الصقيعي، المميز للمناطق شبه الصحراوية، تزيد إليها قساوة المناخ في الأطلس المتوسط. لم يعمر الخريف إلا قليلاً. ثم بدأت درجات الحرارة في الانخفاض بلا هوادة. وطلبنا لباساً للشتاء، كما كانت العادة داخل الجيش، لكن من غير طائل. لقد اصطدمنا بما سيصير، منذئذ، حصتنا اليومية : اللامبالاة.
لكي أستطيع أن أنام في الليل، كنت أطوي غطائي بالعرْض إلى حزام من نحو خمسة عشر سنتيمتراً. وبذلك أحصل على شيء من سمْك، ولو قليل بين الجنُب والإسمنت، ذلك بأني لم يكن بمستطاعي أن أنام، بطبيعة الحال، إلا على الجنْب. فإذا رغبت أن أنقلب على الجنب الآخر، لزمني أن أنهض، وأقوم بتلك العملية، ثم أعود إلى الاضطجاع على الجنب الآخر، بعد أن أعيد العدة كلها هيأتها الأولى، وقد طويتها مرتين، وأحرص على أن أثبت طرفيها تحت جسمي. كان السر يتمثل في أن لا أدع من فتحة، مهما كانت صغيرة، يمكن أن ينفذ منها الهواء. إنه تمرين حقيقي كان يلزمني أن أقوم به بعد كل حركة أجيئها، كأنه طقس ثابت لا يتبدل. فأقل ثقب يلحق تلك القوقعة المرتجلة يصير أداة للتعذيب؛ شعاع متواصل يخترق منك الجلد والعظم؛ فإذا الحرارة العامة داخل ذلك المخبإ قد صارت، في الحال، شيئاً لا يطاق. فلكي أعالجه، كان يلزمني أن أعيد إعداد كل شيء من البداية. ولاحاجة إلى القول إن الأمر كان يستغرق من الوقت بلا حساب. ثم صرت، بتوالي الأيام، أكثر خبرة، فصارت تلك المعالجات عندي إلى تناقص. فهذا كان يتيح لي مزيداً من الوقت للنوم، وينقص عني أسباب الإجهاد.
فإذا صرت تحت الغطاء، باتت كل حركة أجيئها مخاطرة كبيرة. فلزمني أن أتحمل الآلام في وركي والآلام في كتفيَّ أطول ما في الإمكان، ولزمني خاصة أن أقتصد في الهواء المختزن، فلا أجيز لنفسي أن أغيره إلا عند الضرورة القصوى، متى صار غير قابل للتنشُّق. فقد كانت الحاجة ماسة إلى كل مصدر للدفء، وليس عليَّ أن أضيع شيئاً، فكنت أحفظ أقل ضُراط (ويعلم الله كم كان كثيراً بسبب القطاني التي كنا نبتلعها كل يوم!)، إلى حين أصير تحت الغطاء، وقد تأكدت أن ضراطي لن يضيع. الروائح؟ أي روائح؟ لقد كانت كثيرة. وتزداد كثرة مع كل يوم. حتى لقد صرنا عنها ساهين. فلقد اعتدنا النتانة، مثلما اعتدنا الجوع، والبرد وغيرها من المحن، واعتدنا العطش أيضاً، لأن الماء الذي يقدم إلينا يكون ملوثاً. فإذا أفرغناه في الإناء البلاستيكي، استحالت جوانبه على الفور لزجة دبقة؛ وعلاه غشاء من حمإ. وسرعان ما اجتمع رأينا على الإضراب عنه، فما عدنا نشربه. فقد كان الطعام في معظمه من السوائل، ما يجنبنا الموت عطشاً. فما عدنا نتجرع ذلك الماء القذر إلا في حالات الضرورة القصوى. وأما الذين أخلوا بتلك القاعدة، فقد كانت العواقب عليهم وخيمة.
تكون الحاجة ماسة في الشتاء إلى المشي. من ركن المدخل حتى الركن الذي يقوم بين المراحيض والمرقد؛ ذلك كان هو كل قُطر الحياة عندي، قُطر المشي. والمسافة لا تزيد عن أربع خطى في جانب، وأربع في آخر؛ ثم أستدير، تارة إلى اليمين وتارة إلى اليسار، حتى لا أصاب بالدوار؛ فذلك شيء تعلمته من السينما. فإذا لم أتمشَّ، أقمت الصلاة؛ فهي تمرين بدني جيد. فلقد قررت أن أسدد الديون التي في ذمتي نحو الله. الإسلام يأمر بالبدء في الصلاة في الثانية عشرة، لذلك قررت أن أؤدي لا خمس صلوات، بل خمساً وثلاثين صلاة في اليوم الواحد، بما يوفر لي ستة أيام إضافية، ويكون لي وسيلة جيدة للحفاظ على لياقتي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حكايات السعدنى الحلقة السادسة عن الجنرال المغربي محمد اوفقير

حكايات السعدنى الحلقة السادسة عن الجنرال المغربي محمد اوفقير