الجمعة، 8 يناير 2021

النقيب السابق أحمد الوافي يروي تفاصيل جديدة عن تازمامارت و المحاولتين الانقلابيتين

 النقيب السابق أحمد الوافي يروي تفاصيل جديدة عن تازمامارت و المحاولتين الانقلابيتين

نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 16 - 09 - 2011

هما رحلتان أو قوسان انغلقا علينا ذات صيف و لم ينفتحا إلا بعد مرور ثمانية عشر عاما. قوسان عانينا بينهما أفظع ما يمكن للمرء أن يتصوره. فترة عشنا أثناءها ظروفا تتحدى كل تصور و معاناة تفوق كل خيال.
الرحلة الأولى قادتنا إلى معتقل تازمامارت الرهيب في ليلة صيفية قائظة هي ليلة سابع غشت 1973, و نحن شباب في كامل عنفواننا و قوتنا.تم اقتيادنا خلالها من السجن المركزي بالقنيطرة, الذي كنا ضيوفه بعد أن تمت محاكمتنا و صدرت ضدنا عقوبات سجنية متفاوتة (أما الذين حكموا بالإعدام فقد نفذ في حقهم يوم 13 يناير 1973 في حقل الرماية العسكري بمهدية و لم يعودوا بيننا) بسبب تورط بعضنا في إحدى المحاولتين الانقلابيتين ضد النظام الملكي للحسن الثاني.
أما الرحلة الثانية فقد تمت في 15 سبتمبر 1991 , وهي التي أعادتنا إلى دنيا البشر قادمين ,كما الأشباح, من معتقل تازمامارت و نحن أشلاء بشرية تاركين خلفنا سنوات شبابنا و جثامين ثلاثين من رفاقنا الشهداء الذين سقطوا تباعا في ظروف لا أفظع منها و لا أقسى.
في الحلقات التالية سأشاطر القارئ الكريم جزءا من تفاصيل حياتنا و معاناتنا طيلة هذه الثمانية عشر عاما في معتقل مظلم و ظالم جدير بمعتقلات القرون الغابرة. كما سأتحدث عن الظروف التي قادتنا ? بعضنا بإرادته و البعض الآخر بتضافر ظروف و مقادير لا يد له فيها ? إلى هذا المصير, أي عن المحاولتين الانقلابيتين ل 10 يوليوز 1971 و 16 غشت 1972.
هذه الأحداث التي رويتها لك, عزيزي القارئ, تعود إلى أربعة عقود خلت, قضينا بعدها قرابة العقدين في سجن تازمامارت الرهيب ثم أطلق سراحنا في 15 سبتمبر 1991 ليضعونا في ثكنة أهرمومو التي تحولت بالمناسبة إلى مستشفى متعدد الاختصاصات لاستقبالنا ,حيث قدمت لنا تغذية غنية و متنوعة و مكملات من الفيتامينات لتعويض سنوات الحرمان والتجويع التي تعرضنا لها طيلة ثمانية عشر عاما و بالأخص لاستعادة شكل آدمي مقبول في أعين عائلاتنا و في أعين الآخرين.
لكن هل خرجنا في شكل مقبول؟ بدنيا يمكن القول أنه باستثناء الشحوب الشفاف الذي كان يغلفنا و الأمراض غير المرئية الساكنة في أبداننا كنا مقبولين إلى حد ما, لكن الأصعب هو الندوب الباطنية العميقة و المتجذرة التي أثرت على نفسياتنا و ظهرت في سلوكياتنا.
فالعزلة الطويلة داخل سجن تازمامارت أنستنا بعض المواضعات الاجتماعية, إضافة إلى الخجل و الحذر و الخوف من الآخر الذي أصبح يطبع تصرفات معظمنا,جعل من اندماجنا داخل المجتمع من جديد شبه مستحيل حتى بالنسبة للذين تحلوا بالشجاعة و استأنفوا العمل أو الدراسة.
قبل أن يتم الإفراج عني جاءني العقيد فضول - دائما هو- لكي يبلغني بالنبأ السعيد و لكي يبشرني بأنه سيتم تعويضنا عن سنوات الاعتقال في تازمامارت و سنكون سعداء جدا, قائلا أنه سيتم الاتصال بنا بعد حوالي شهر.
و حين جيء بنا, أنا و غلول, إلى دائرة القنيطرة للقاء الأول مع عائلاتنا, انفرد بنا القائد العلمي لكي ينصحنا بالتكتم و الابتعاد عن الأحزاب السياسية واعدا إيانا بدوره بإيجاد شغل لنا و سكن ملائم داخل أجل شهر, و هو ما أثلج صدرنا و جعلنا نعتقد أن سنوات العذاب قد ولت.
و انتظرنا عدة شهور لم تتحرك خلالها أي من الجهات الرسمية التي وعدت بإدماجنا و تعويضنا عن كافة الأضرار التي لحقتنا نحن و عائلاتنا طيلة سنوات الاعتقال بتازمامارت. قررت أنا و غلول, أن نتوجه إلى عامل القنيطرة لكي نستقصي عن وضعنا و عن مسار الوعود التي تلقيناها, و استقبلنا العامل بشكل جيد, وبعد أن أنصت لنا باهتمام, أكد لنا أننا لا زلنا في السلك العسكري و لهذا فإن الجيش الذي ننتمي له هو من ينبغي أن يحل مشاكلنا و يتحمل مسؤولية تعويضنا.
و بعد أسبوع توجهت صحبة غلول,رفيقي في محنة تازمامارت, إلى قيادة الأركان بالرباط ساعين لمقابلة الجنرال المسؤول, و بعد انتظار طويل في ردهة مكتبه كانت الاتصالات الهاتفية المحمومة تتوالى بين المكاتب من جهة و بين قيادة الأركان و القصر الملكي من جهة ثانية, جاءنا نقيب شاب كان تلميذا عند غلول لكي يبلغنا أن لديه أوامر صريحة باقتيادنا إلى خارج مقر قيادة الأركان و حين بلغنا الباب طلب منا بكل احترام ألا نعود أبدا إلى مقر القيادة ..لأننا لم نعد ننتمي إلى سلك الجندية و لم نعد عسكريين.
كانت هذه حالنا نحن, و هي مماثلة لحالات الكثير من رفاق تازمامارت الذين أفرج عنهم مثلنا دون أن يتلقوا أي سند أو دعم مادي اللهم مساندة و دعم عائلاتهم. و قد كنا نحن محظوظين لأننا وجدنا عائلات متماسكة و حاضنة و هو الأمر الذي لم يجده عدد من رفاقنا الآخرين, و تلك قصة أخرى.
ظللنا على هذه الحال البئيسة, كل يقاوم بمعزل عن الآخر دون طائل و لا نتيجة, إلى أن فوجئنا في أوائل سنة 1994 ,قبل ثلاثة أسابيع من انعقاد مؤتمر «الغات» الاقتصادي العالمي بمدينة مراكش, باستدعاء مستعجل إلى مقر وزارة حقوق الإنسان بالرباط.
و بمقر الوزارة استقبلنا الوزير عمر عزيمان فرادى حيث أبلغنا جميعا (و هو ما تحققنا منه بعد لقائنا فيما بعد) بالتالي :» إن جلالة الملك يتأسف لما وقع لكم, و هو أمر لم يكن يعلم به, و أنه أعطى تعليماته الصارمة كي تتم تسوية ملفكم تسوية نهائية, في مجالات السكن و التطبيب و التقاعد, إضافة إلى منحة ملكية سيتم تحديد مبلغها و ستعجبكم» كل ذلك - أضاف الوزير- خلال شهرين من الآن موضحا أننا سنتلقى ابتداء من فبراير 1994 مبلغا شهريا بقيمة خمسة آلاف درهم صادرا من الخدمات الاجتماعية التابعة للقوات المسلحة الملكية, و هو مبلغ لا يكتسي أي طابع رسمي بل هو موجه للاستجابة لحاجياتنا المستعجلة.
و بعد مرور عدة أشهر دون تحقيق أي من الوعود التي تلقيناها- باستثناء الخمسة آلاف درهم - طرح على وزير حقوق الإنسان عمر عزيمان, في أحد الاستجوابات الصحفية, سؤال حول هذا الموضوع, تراجع نافيا أن يكون قدم أي وعد بهذا الخصوص. و استأنفنا رحلتنا العصية و طرق الأبواب الموصدة إلى أن وصلنا إلى وزارة حقوق الإنسان بعد أن غادرها عمر عزيمان, وكانت الطامة الكبرى.
فخلال لقاء لنا مع الوزير الجديد محمد زيان, صرح لنا هذا الأخير قائلا و نحن في مكتبه : «ليس لكم الحق في أي تعويض, و اعتبروا أنفسكم سعداء لأنكم ما زلتم على قيد الحياة...» مما أثار حفيظتنا جميعا و دفع المرحوم محمد الرايس إلى أن ينقض على الوزير المتبجح في مقعده و يشد بخناقه صارخا فيه أمامنا : «و الله حتى نقتل إماك...» و لولا تدخل مدير ديوان الوزير زيان لإنقاذه لحدثت مصيبة في مكتب الوزير.
وبالموازاة مع ذلك لا بد من التوقف للإشادة ببعض الرجال و النساء و الجمعيات و المنظمات سواء المغربية أو الأجنبية التي وقفت إلى جانبنا منذ خروجنا من تازمامارت و ساندتنا ماديا ومعنويا.
وقد لا تسعفني الذاكرة لذكر الجميع لكني أذكر على وجه الخصوص «مؤسسة يوهانس فير للصحة و حقوق الإنسان الهولندية» التي كانت سباقة في إرسال بعثة طبية لنا لتحديد الآثار النفسية و البدنية لثمانية عشر عاما من الاعتقال
و كانت أهم خطوة تم اجتيازها على الصعيد الوطني هو قيام «المنظمة المغربية لحقوق الإنسان» بإطلاق جلسات علاج جماعية, برئاسة الدكتور عبد الله زيوزيو لفائدة جميع ضحايا تازمامارت و هو ما أفادنا كثيرا و شجعنا على تنظيم و رص صفوفنا.
كما وقفت «الجمعية المغربية لحقوق الإنسان» إلى جانبنا بشكل كبير و شجعتنا أيضا على إنشاء إطار يضمنا و نتناقش داخله حول مشاكلنا. و هكذا أسسنا «جمعية قدماء معتقلي تازمامارت» في خامس يناير 2003 و أصبحنا نلتقي مع بعضنا البعض للدفاع عن حقوقنا و لتنظيم أنفسنا وتوحيد مطالبنا.
كما كنا نتوصل برسائل دعم و تضامن من أجانب وهي الرسائل التي رفعت معنوياتنا بشكل كبير خصوصا في تلك الفترة الأولى التي كنا خلالها فاقدي البوصلة
وإن أنس لا أنسى المقاوم بنسعيد أيت إيدر ذلك الرجل الشجاع الذي كان أول من طرح قضيتنا أمام البرلمان المغربي و كذلك السيدة دور السرفاتي التي أسست جمعية «عدالة تازمامارت» و السيد محمد امجيد الذي ساندنا في صمت نبيل. و ليعذرني الكثيرون الذين ساندونا و لم أذكرهم...
و في عام 2001 تلقينا تعويضا عن الضرر والأذى الذي لحقنا أثناء اعتقالنا في تازمامارت , وتوقفت فورا تلك المنحة الشهرية (5000درهم) التي كنا نستلمها منذ 1994 وقد تراوح التعويض ما بين مليونين و 400 ألف درهم (240 مليون سنتيم) و3 ملايين و نصف المليون درهم (350 مليون سنتيم) ضيعها أغلبنا نتيجة انعدام الخبرة أو نتيجة النصب الذي تعرض له
كنا مضطرين للقبول لأنه لم يكن لدينا أي مدخول آنذاك و لأن ما تلقيناه هو تعويض عن التعذيب الذي لاقيناه في تازمامارت أما الباقي فلا زلنا نطالب به مثل التعويض عن الاختطاف والاحتجاز التعسفي و التعويض عن سنوات السجن الزائدة و التعويض عن فقدان الحرية في ظروف اعتقال لا إنساني و التعويض عن الأضرار النفسية و الصحية التي لحقتنا و لحقت أسرنا و التعويض عن الأضرار المادية و المعنوية الناتجة عن الخوف و فقدان الأمان و التعويض عن مقومات الحياة العادية (الدراسة, الرياضة...) و التعويض عن الحرمان من الاستفادة من الخدمات الصحية و الاجتماعية و السكن و التقاعد من الجيش (14 سنة في القوات المسلحة الجوية بالنسبة لي)
هذا التعويض بطبيعة الحال لا يرقى إلى التعويض الذي تلقاه الإخوة بوريكات عن سنوات الاعتقال في تازمامارت إذ قدمت الدولة المغربية لكل واحد منهم سنة 1993 عشرة ملايين فرنك فرنسي (أكثر من مليار سنتيم لكل واحد) وضعت في حسابهم بأحد البنوك السويسرية بعد مفاوضات بين محاميهم و ممثلي الدولة المغربية , و ذلك مقابل الفترة التي قضوها في تازمامارت . كما أن هذا التعويض لا يحترم المعايير الدولية لتعويض المساجين في حالتنا.
لهذا فإني أتوجه,باسم رفاقي الناجين من معتقل تازمامارت, إلى  الملك محمد السادس,  بأن يصدر تعليماته كي يتم الاهتمام بحالتنا و حل مشاكلنا : لقد خرجنا من تازمامارت 28 شخصا توفي منا لحد الآن خمسة, و أغلبنا قد هرم و ضيع زهرة شبابه في غياهب تازمامارت الرهيب. خرجنا شيوخا نخرتنا الأمراض لا نأمل إلا أن نقضي ما تبقى من حياتنا في ظروف عيش كريمة متمتعين بالتغطية الصحية و بتقاعد كريم يقينا ذل السؤال و بتعويض ينسينا بعض العذاب الذي عانينا منه , و أنا أتوجه إلى  الملك من خلال هذا المنبر و باسم كافة رفاقي أن يتدخل  كي ينهي معاناتنا لكي تطوى صفحة تازمامارت طيا نهائيا.
انتهى


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حكايات السعدنى الحلقة السادسة عن الجنرال المغربي محمد اوفقير

حكايات السعدنى الحلقة السادسة عن الجنرال المغربي محمد اوفقير