السبت، 2 يناير 2021

عقب الخروج من تازمامارت

عقب الخروج من تازمامارت



 - يوم 16 شتنبر 1991، ستجدون أنفسكم تنتقلون من تازمامارت إلى ثكنة أهرمومو؛ كيف تم إيواؤكم هناك وإعدادكم، نفسيا وبدنيا، لعملية الإفراج عنكم؟

في أهرمومو تم تفريقنا على غرف بأسِرَّة نظيفة ومرحاض أرضي «بلدي»، لكنه كان بعيدا عن السرير. عندما نقلت أنا من الشاحنة إلى الغرفة على نقالة محمولة، ونزع العساكر القيد من معصمي والعصابة عن عيني، نظرت من حولي فشعرت بأنني أولد من جديد، لولا أن سوَّدت لحظة َالسعادة تلك رُؤيتي للكولونيل فضول يقف قريبا مني. كان الحراس يهمون بوضعي فوق السرير، فطلب منهم فضول تركي مطروحا على الأرض: لا تضعوا أيا منهم فوق السرير المخصص له حتى يغتسل؛ قال فضول. والواقع أننا كنا، بالفعل، على درجة من الاتساخ لا يمكن وصفها، إذ كنا نحمل أوساخ وأدران سنوات طوال. هكذا حملني دركيان ووضعاني على أريكة صغيرة كانت في ركن من الغرفة، ثم عاد أحدهما يردد على مسامعي أوامر فضول وكأنني لم أسمعها: لا تتمدد فوق السرير. بدأت أتحسس الكنبة بيدي اللتين كانتا قد فقدتا الإحساس طوال سنوات اعتقالي في تازمامارت؛ رددت بصوت مسموع: أنا عائد إلى الحياة لا محالة. دخل دركي ووضع لي على الطاولة المقابلة صحنا به قطعة خبز ساخن مدهون بالزبدة وكأس حليب معد بالشوكولاته. كانت الطاولة في الطرف القصي من الغرفة الواسعة، وعندما كان يهم بالمغادرة قلت له: كيف سأقوى أنا على الذهاب إلى هناك؛ قرّب الطاولة إلي أو ساعدني على الذهاب إلى حيث هي. في باب الغرفة كان الكولونيل فضول واقفا، وعندما سمعني أتحدث إلى الحارس دخل إلى الغرفة، وتوجه إلي سائلا: ماذا هناك؟ أجبت: لا أقوى على الذهاب إلى حيث يوجد الصحن. نظر إلى الدركي وقال له: «هزو وديه لتما»، فحملني الدركي إلى حيث يوجد الصحن، وقبل أن يغادر فضول التفتُّ إليه وقلت: أحتاج إلى كرسي مرحاض. وفي الصباح، جاؤوا بكرسي أحدثوا وسطَه ثقبا واسعا ووضعوه على المرحاض. لكني كنت في حاجة إلى من يحملني إلى غاية المرحاض، ويضعني فوق الكرسي، وقد قلت هذا للكولونيل فضول فأجابني: «غير كون هاني»، حيث أصبحت أنادي على أحد الدركيين الواقفين قرب باب الغرفة فيحملني إلى المرحاض ويضعني على الكرسي، ثم يعود لحملي بعد أن أنتهي من قضاء حاجتي. أما عن الطعام، فقد أكلت أول وجبة لي خارج تازمامارت بنهم شديد ثم سقطت مغشيا علي؛ وعندما أفقت وجدت أمامي «صينية» مليئة بما لذ وطاب من الأكل الشهي: خبز وشوكولاته ويوغورت وتمر وعنب وموز، فانقضضت على الأكل بنهم لأسقط مغشيا علي من جديد. لقد كنت، من فرط وهن سنوات تازمامارت، آكل فأدخل في غيبوبة. نمت لحوالي ساعتين، ولم أفق إلى أن أيقظني ممرض، ساعدني على الجلوس أمام طاولة الأكل، فازدردت وجبتي الثالثة خارج تازمامارت، وكانت عبارة عن طبق ساخن وفواكه.. كنت أحشو الطعام في فمي بنهم، وبطريقة أسرع من المرتين السابقتين.. كنت وحشا في جسد إنسان، يأكل أي شيء يجده فوق الطاولة، ثم ينتابني إحساس من سيفقد وعيه، فأغط في نوم عميق.. هكذا مر يومي الأول خارج تازمامارت.
- هناك في أهرمومو، سيتم عرضكم على أطباء من مختلف التخصصات لبعث الحياة فيكم من جديد؛ كيف تم ذلك؟
في اليوم الأول، دخل عليّ الكولونيل فضول مصحوبا بطبيب رحَّب بي قائلا: «Je suis là pour te remettre en état» (أنا هنا لكي أعيد تشغيلك)، وكأنني آلة لحقت بها أعطاب كثيرة. في اليوم الثاني، زارني طبيب آخر، وعندما رآني فزع لحالي وخطا خطوتين إلى الوراء، ثم مافتئ أن تشجع قليلا واقترب مني وأخذ يفحصني وهو يرتعد وينظر إلي كما لو أني كائن غريب. أخذ عينات من دمي وبولي. بعدها جاؤوني بمروِّض طبي سيظل يتردد علي لمدة أسبوع. وطيلة ذلك الأسبوع الأول في ثكنة أهرمومو، استمررت في الأكل بالنهم نفسه، لكن شيئا فشيئا لم يعد يغشى علي بعد الأكل. في اليوم الثالث، دخل غرفتي الكولونيل فضول، مصحوبا بحلاق، قص شعري وحلق لحيتي. كان الحلاق فارع الطول، فمازحته قائلا: سيكون من الأحسن لك لو تحولت إلى لاعب لكرة السلة، فطولك سيساعدك على شق مستقبل أفضل في هذه اللعبة. وبعد الحلاقة، تم نقلي على كرسي متحرك إلى الحمام حيث وضعوني تحت رشاش ماء ساخن وأنا على الكرسي المتحرك بعد أن نزعوا عني ملابسي، التي منها قميص منحني إياه الحراس عندما كنا نهم بمغادرة تازمامارت.. كان قميصا مفتوحا قليلا، يظهر منه صدري وقد غلفته قشرة صدفية «Une carapace» كالتي تحملها السلحفاة. عندما خلع الدركيون ملابسي ورأوا تلك الصدفة المكونة من طبقات أوساخ تراكمت طيلة سنوات من الاعتقال، تراجعوا بداية إلى الخلف.. لقد استمروا لحوالي ساعتين وهم يحاولون فركي ودهني بالصابون لتنظيفي، وكنت أحس بأنهم سيستسلمون أمام قوة وصلابة الأوساخ التي علقت بي وأصبحت جزءا مني، وفعلا فقد استسلموا بعد مرور ساعتين، وأعادوني إلى غرفتي. وفي اليوم الموالي استأنفوا غسلي، أو تقشيري، أو تخليصي من الأوساخ وفصلي عنها.. لقد كنت أحس بهم، وهم يرون كميات الأوساخ التي تنزل مني، يستشعرون كم كانت فظيعة ووحشية تلك السجون التي كانوا مسؤولين عنها.

من مقال

بوريكات: عندما رآني الطبيب عقب الخروج من تازمامارت فزع ورجع إلى الخلف خطوتين
قال إن رجال الدرك تناوبوا على تنظيفه ليومين لإزالة طبقات الأوساخ العالقة بجسده
نشر في المساء يوم 10 - 06 - 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حكايات السعدنى الحلقة السادسة عن الجنرال المغربي محمد اوفقير

حكايات السعدنى الحلقة السادسة عن الجنرال المغربي محمد اوفقير