الجمعة، 15 يناير 2021

بوطالب: الحسن الثاني مسؤول أخلاقيا عن انتهاكات حقوق الانسان الجريدة الأولى

 

الحسن الثاني مسؤول أخلاقيا عن انتهاكات حقوق الانسان


بوطالب: الحسن الثاني مسؤول أخلاقيا عن انتهاكات حقوق الانسان
الجريدة الأولى


في شهادة نادرة عن مراحل حاسمة من تاريخ المغرب يروي عبد الهادي بو طالب مستشار العاهل المغربي الراحل الملك الحسن الثاني سيرة شعب وقيادات صنعت المغرب المعاصر كما يتحدث عن طبيعة الحكم المرتبط بالفرد ويشير إلى أن الحسن الثاني يتحمل مسؤولية تاريخية عن انتهاكات حقوق الإنسان التي حصلت في عهده .
وهذه المذكرات وهي على شكل شهادة عبارة عن جلسة استماع لعبد الهادي بوطالب سجلتها هيئة الإنصاف والمصالحة في إطار سعيها لكشف الحقيقة ولفهم ماجرى خلال العقود الماضية التي أدت إلى ارتكاب انتهاكات جسيمة في مجال حقوق الإنسان في عهد الملك الراحل الحسن الثاني. وقيمة هذه الشهادة أنها تنشر للمرة الاولى وهي بمثابة وثيقة تاريخية مهمة من حق الرأي العام الاطلاع كونها تلقي مزيدا من الضوء لمعرفة ماجرى.

أحمد بلافريج ذهب إلى هتلر في برلين فبدأ الناس يتحمسون لألمانيا
بعد توطئة يقوم بها اثنان من هيئة الإنصاف والمصالحة لشرح موضوع اللقاءات يبدأ عبد الهادي بوطالب شهادته قائلا: تاريخ المغرب لم يكتب إلى حد الآن، و ما كتب عنه أو منه، يعكس مواقف سياسية عند الكثيرين. الكل يريد أن يدافع عن نفسه وعن هيئته و حزبه فقط. كثير من الذين كتبوا مثلا عن الحركة الوطنية لم يكتبوا إلا عن حزب الاستقلال، و هناك كتب تدعي سرد تاريخ الحركة الوطنية لكنها لا تتحدث إلا على حزب الاستقلال. فإذن هناك نظرة أحادية تطبع بعض الكتب.
أنا شخصيا أقول بأنه لا ينبغي أن تتأخر كتابة التاريخ بل يجب أن يكتب في حينه. في الماضي كانت تتأخر كتابة التاريخ لانعدام وسائل التواصل المتطورة، أما اليوم فالوضع مختلف. الأحسن إذن أن يكتب التاريخ في حينه لكي يتم التصدي لكل من يروي ما جرى من منطلق اتجاه أحادي، وحتى يتمكن الآخرون كذلك من الإدلاء برواياتهم وكشف حقائق أخرى. باش يجي آخر و يقول حقيقة أخرى.
بطبيعة الحال، الذي سيكتب التاريخ لابد أن يستنطق جميع الفعاليات التي صنعته أو ساهمت فيه. لذلك أنا أقول إنه آن الآوان لكي تقوم الدولة بتأسيس هيئة لكتابة التاريخ. هيئة تستنطق الجميع، ويساهم فيها رجال المقاومة والأحزاب السياسية التي كانت موجودة آنذاك. ويدوز داك الشي من الغربال. يجب أن يغربل كل ما ينطقون به حتى نحصل على الحقيقة. الحقيقة مجردة من أي نعت بالزيف أو الصدق أو النقصان. الحقيقة فقط.
لا نختلف في الرؤية، نحن أيضا نقول بضرورة كتابة التاريخ هذه بداية الكتابة. أريد أن أتحدث إليكم عن موضوع الانحرافات والانشقاقات التي وقعت في الصف المغربي وأسبابها و تداعياتها التاريخية. لا أقول إنني مؤرخ، لكنني أيضا لست من الذين ينطلقون من منطلق نظرة أحادية. أنا كتبت في كتابي «ذكريات وشهادات ووجوه» في مجلدين ضخمين من جزئين، في كل منهما 600 صفحة، ثم فضلت أن أختصره في ما كتبت في جريدة «الشرق الأوسط». لو أنني أردت أن أجمع كل ما قلته في «الشرق الأوسط» لأصدرت كتابا من 5 أو 6 مجلدات، وهذا كثير.
قلت في مقدمة هذا الكتاب "إن الإنسان بطبعه أناني إذا تحدث عن أي شيء تحدث عن نفسه". واستشهدت بنارجنسن، وزير الخارجية، الله يرحمه، الذي كان يقول "لا أعلم أن أحدا دعا إلى اجتماع وحضره وسهر فيه وساهم في كتابة تقريره إلا وخرج في اجتماع آخر ليقول لقد قمت بكذا وكذا وقلت وقلت وقلت... ولا يتحدث عن ما قال الآخرون". هذه ظاهرة إنسانية، الإنسان لا ينصت إلا لنفسه. عادة ما لا يهتم المرء بما قاله الآخرون إذا ما حضر مجلسا ما، وحين يسأل عما قيل لا يروي إلا ما قاله هو. الإنسان بطبعه أناني، لا يعترف بأخطائه، والآخرون بالنسبة إليه هم المخطؤون والمجرمون دائما، أما هو فبريء نظيف.
الحكم عربيا واسلاميا محصور بالشخص
لنعد إلى موضوعنا، سأتحدث إليكم كمؤرخ شيئا ما و كمحلل موضوعي دون أن أسعى إلى توجيه حديثي هذا أي وجهة أحادسة النظرة. بالنسبة للمؤرخ العربي الإسلامي، والمغرب جزء من هذا العالم، الحكم دائما كان مشخصا ومحصورا في الفرد. لم يكن قط حكما مؤسساتيا، وما يزال كذلك إلى الآن. وحتى عندما تقام المؤسسات، تكون السلطة الطاغية هي سلطة الحاكم الأعلى المشخص للسلطة. وهذا الأمر في الواقع ذكره حديث نبوي يقول ما معناه: إن ملكا عضوضا سيحل محل الخلافة الراشدة بعد 30 عاما على وفاة الرسول.
وكذلك كان منذ تولى الملك الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان. نفس الشيء حدث في تاريخ المغرب. لا يمكن لأي مؤرخ أن ينفي أن الحكم كان مشخصا عند أي سلطان أو ملك أو قائد حركة سياسية سواء عند الأدراسة أو المرابطين أو الموحدين أو المرينيين أو السعديين أو العلويين. كل ملك يقول كما قال فرعون "أنا ربكم الأعلى". وهو الذي عاقبه الله تعالى بأن أنزل به العذاب الأليم، وهذا عقاب الديكتاتور. على سبيل المثال فقط، ما قرأناه في تاريخ المغرب عن السلطان المولى إسماعيل وما ارتكبه من الفظائع خلال 50 سنة قضاها في الحكم. حتى أنه قتل أولاده. رغم أن عصره كان عصر ازدهار وكانت له علاقات دولية... لكن ذلك لا ينفي أنه كان طاغية، لدرجة أن الناس كانو يقولون بعد وفاته "بموت عبد الجبار يعرف الواحد القهار".
الحكم في العالم العربي الإسلامي، والمغرب جزء منه، كان دائما محصورا في شخص واحد. في أوربا أيضا كان الأمر كذلك، فلنتذكر فقط قولة الملك الفرنسي لويس 14، "الدولة هي أنا". ونحن بقينا في هذه المحطة من التاريخ. ألم يكن بورقيبة يقول "تونس هي أنا"؟ قالها لنا مرارا وتكرارا. إذا استنطقنا ذاكرة التاريخ، فسوف لن نعثر على أي أثر، لا أقول للديمقراطية التي لم تكن قد وجدت بعد، ولكن فقط للعدل والرفق في معاملة الناس، أو فقط لنوع من التواضع في استعمال السلطة. لم يكن الحاكم يعير أي اهتمام للآخرين ولا يعتبر أنهم موجودون، لا يهمه أن يجوعوا أو يصيبهم الفقر أو يمسهم الظلم. كان إذا أدخل سجين السجن لا يسأل عنه أحد أبدا بعد ذلك. هذا هو تاريخنا. وهذا ما وجدته الحماية الفرنسية حينما جاءت إلى المغرب.
السلطان عبد الحفيظ، الذي وقع عقد الحماية يوم 30 مارس مع السفير الفرنسي راليو، كان يقول إنه لا يريد أن يكون سلطان الحماية بعد أن كان سلطان الاستقلال. كان يعني استقلاله هو، استقلاله الشخصي الذي جاءت الحماية لتشاركه فيه. ليس صحيحا أنه لم يقبل التنازل عن الحكم بل الصحيح أنه لم يقبل أن تشاركه الحماية فيه. ماذا فعل هذا الرجل حينما جاءته هيئة البيعة بعقد بيعة يمنع عليه إبرام أي عقد مع الأجانب إلا بعد أن يستشير أعضاء هذه الهيئة، أي العلماء الذين بايعوه؟ قتل أحدهم ورفع العصا في وجه آخر.
الحماية على المغرب
هذا ما وجدته أنا، كمؤرخ، لما جاءت الحماية إلى المغرب. ماذا فعلت الحماية بهذا الوضع؟ تركت الواجهة كما كانت، أي أن السلطان بقي هو الحاكم الذي يوقع جميع الظهائر، لكنها أخذت بزمام الحكم الفعلي المباشر. بعد ذلك، وأقف هنا عند عقد الثلاثينيات من القرن الماضي، تأسست الأحزاب. تأسس أولا الحزب الواحد الذي كان يجمع جميع الزعماء الوطنيين، أقصد "كتلة العمل الوطني". وحينما أرادت هذه الهيئة أن تنظم نفسها بإحداث مكتب وقيادة لم تستشر قواعدها. اجتمع القادة فيما بينهم واختاروا من بينهم من يتولى الأمر، فصوتوا لانتخاب رئيس الكتلة وأمينها العام.
كان هناك صراع بين اتجاهين: اتجاه عصري و يتمثل في الذين درسوا في أوروبا وآخر تقليدي يمثله علماء الدين. علماء الدين هؤلاء كانت لهم سلطة يستمدونها من خلال فتواهم للسلطان، والتاريخ يخبرنا عن عدد ممن يسمون "علماء السلاطين". العلماء قالوا إنهم هم من يجب أن يأخذوا الحكم بدء من لحظة تشكيل قيادة الكتلة، شرعوا في التصويت وكانت النتيجة لصالح محمد بلحسن الوزاني. الأخير كان ينتمي للمدرسة المعاصرة، درس العلوم السياسية والصحافة والإعلام في باريس، واحتك بالأحزاب السياسية في فرنسا خصوصا الحزب الاشتراكي الفرنسي.
بالمقابل كان هناك حزب السي علال الفاسي، وهو مجدد لكنه يتبنى السلفية. يعني كان يظهر دائما من يقول أنا لا غيري كلما تعلق الأمر بالحكم. بعد ذلك ستنشق كتلة العمل الوطني إلى حزبين، أحدهما سمي وطنيا ولم يكن يطالب بالاستقلال في البداية، وهو حزب السي علال الفاسي، والآخر تزعمه محمد بلحسن الوزاني وسماه حركة وليس حزبا وكان يطالب بأن تنتخب القيادة من القاعدة، عبر جمع مجلس وطني كبير من المدن والقرى.
حدث هذا سنة 1937؟ كيف أن الأغلبية كانت سلفية والحال أن مطالب 1934 كانت ذات طبيعة إصلاحية متشبعة بروح العصر؟
القيادة كانت سلفية والذي حرر الوثائق، وثائق المطالب، هم العصريون الذين درسوا في المدارس. مهمة تحرير هذه الوثائق لم يتكفل بها لا السي علال الفاسي ولا السي عبد العزيز بن ادريس ولا السي الهاشمي الفيلالي ولا السي بوبكر القادري. أقوى نص إصلاحي كان هو ذاك المتعلق بمطالب الحريات والقضاء على التعذيب.. لا أريد الخروج عن سياق تسلسل الأحداث وتطور الحكم. فقط فتحت قوسا حتى لا نرجع للموضوع ثانية..
السؤال الذي طرح خلال هذه الفترة هو من يحكم المغرب، هل هم الإصلاحيون أم السلفيون؟ لكن في نفس الوقت كان ظهور الحركة النازية في ألمانيا المعادية لفرنسا. بالتالي ظهرت نظرة بسيطة للعدو الوطني، عدو عدوي صديقي. وهذا لا يجوز في السياسية. ما تخسرش عدوك لمجرد هاد المعادلة البسيطة. وهكذا ذهب الحاج أحمد بلافريج إلى هتلر في عاصمته برلين، فبدأ الناس يتحمسون لذلك. أتذكر أنني كنت طفلا صغيرا حينها كنت أسمع للراديو ليلا وبدأت تتكون عندي مشاعر انتفاضة، فكنت أقول: ها هوما جاب ليهم الله اللي ينتاقم منهم (أي الفرنسيين) وكفى الله المؤمنين شر القتال.

علاقة حزب الاستقلال بحزب الشورى والاستقلال
حزب الاستقلال خرج بفكرة واحدة مفادها أنه هو الحزب الوحيد ولا يبقل وجود غيره. واستعمل في هذا جميع الوسائل لمحاربة حزب الشورى والاستقلال وتخوينه. قالوا إن بلحسن الوزاني ومناضليه خونة. في هذه الفترة ظهر النشيد المشهور «المغرب لنا لا لغيرنا» وكانت دائما لديهم فكرة الاستقلال. من ذلك الحين والخلاف مستمر إلى أن جاءت حركة المطالبة بالاستقلال، كان يمكن أن يشارك فيها الناس من الحركة (يقصد حركة الوزاني) وقد ذهبت إلى الحاكم وقلت إنني أمضي معكم وكان معي الأستاذ الجناتي.
كان الجناتي حينها محاميا في الرباط. حين ذهبنا لنوقع اتخذوا جميع الوسائل لكي لا يظهر توقيعنا، لأنهم أرادوا أن يقولوا إن حزب الاستقلال هو الذي حقق الاستقلال للمغرب. لا أقول هذا الكلام من باب الحقد، كما أنني لم أذكره في مذكراتي لأنني حرصت على أن لا تتأثر بأي انتماء حزبي، خصوصا أنني حاليا لا أنتمي لأي حزب ولم أنتم لأي حزب منذ غادرت «الاتحاد الوطني للقوات الشعبية». أريد هنا أن أكذب ما قالته عني إحدى الجرائد من أنني لم أتحزب يوما، كما أني لم أكن على الصورة التي نشرت في هذا السياق والتي يظهر فيها إدريس السلاوي واقفا ومعه الخطيب وأحرضان واكديرة وأحمد با حنيني و أحمد العلوي. شاركت في حكومة كان أغلب أعضائها متحزبين، لكن مشاركتي هذه كانت بصفتي لا منتميا.
)مقاطعا) لنتحدث أولا على مفاوضات إيكس ليبان حول استقلال المغرب؟
ذهبنا إلى مفاوضات إيكس ليبان مجتمعين، وخلافا لما يقال، لم يقع أي شيء هناك بيننا وبين الباشا الكلاوي ومن معه. جاؤوا بنا نحن وجاؤوا بهم كل على حدة. استمعوا إلينا واستمعوا إليهم، وفهموا أخيرا. فهموا أنهم لا يمثلون أحدا. دخل حزبنا(الشورى والاستقلال) و كنت أنا فيه؛ دخلت عن طريق الوزارة مع عبد القادر بنجلون. ودخل عبد الرحيم بوعبيد والحاج عمر بن عبد جليل و المهدي بن بركة (حزب الاستقلال)، ومن ثمة بدأت الاتصالات بين حزبينا فقد كنا متفقين رغم أننا متنافسان.
أما أن يقول الاستقلاليون إن حزب الاستقلال هو الذي حقق استقلال المغرب، فهذا كذب. راه ما جابوش الاستقلال، ما جابوش الاستقلال. حزبهم كان جزء من الحركة، كان يقال إنه يمثل الأغلبية داخلها، لكن ينبغي التذكير أنه لم تكن تجرى حينها انتخابات لنعرف من كان يملك الأغلبية. هذا كلام قيل حينها وصدقه الناس، يمكن أن يكون صحيحا ويمكن أن لا يكون كذلك. لكن ما حدث في إيكس ليبان طرح مشكلا فيما بعد، هناك من كان ضد هذه المفاوضات مثل الهيئة الريفية والسي محمد بن عبد الكريم الخطابي.. بالفعل كان هناك من هم ضد إيكس ليبان.
وكان من ضمنهم مقاومون ووطنيون؟
الناس الذين كانوا ضد إيكس ليبان فئة واحدة لكنهم كانو مختلفين. لم يكونوا يتحملون العمل السياسي داخل البلاد. السي محمد بلحسن الوزاني كان ضد إيكس ليبان لكنه كان في الخارج حينها.
كان له ارتباط بالسي محمد بن عبد الكريم الخطابي؟
كان عبد الكريم في الخارج وكانت المقاومة تقول إن السياسيين ليس من حقهم أن يجنوا ثمرة الاستقلال. هذا موضوع آخر. موضوعنا هو من يحكم المغرب.
حتى علال الفاسي كان في البداية ضد إيكس ليبان؟
صحيح هو الآخر كان في البداية ضد المفاوضات لكنه تراجع عن هذا الرأي. لكن حزبه ذهب إلى أيكس ليبان بوفد على رأسه السي محمد اليزيد، الذي كـان النائب العام في غياب بلافريح. أما نحن فلم يكن برفقتنا أي نائب عن السي محمد بلحسن الوزاني. كان يتكون وفدنا من عبد القادر بنجلون، وبنسودة، والتهامي الوزاني وأنا. كانوا الـناس ماشي هوما هادوك، وقد كتبت ذلك في la Mémorial du Maroc, la conférence qui n'a pas eu lieu. لما جاء دورنا ليستمعوا إلينا قالوا لنا «دخلوا فحالكم». لم يحصل اتفاق حول خمس نقاط. ولم نتفق على البيان الختامي أيضا.
ما هي هذه النقاط الخمس؟ كان كل شيء شفاهيا.
كيف؟
لم يكتب شيء، والخلاف حول هذه النقاط حدث بعدما خرجنا من إيكس ليبان. استمرت لقاءاتنا مع إدكار فور ومع مدير ديوان ديرامين بعد المفاوضات. ليس هناك شيء اتفقنا عليه في إيكس ليبان. فهم المغاربة أن هدف سلطات الحماية من وراء مفاوضات إيكس ليبان هو أن يظهر أن المغاربة مختلفون فيما بينهم. لذلك أتوا بهؤلاء وهؤلاء.
كانت مرافعة عبد الرحيم بوعبيد وعبد القادر بن جلون في غاية الأهمية في هذا الباب. رفعنا الإبهام الذي كان سائدا ووضحنا الأمور. فقام هؤلاء السادة (ربما يقصد الباشا الكلاوي ومن معه) وقالو نحن نقبل أي شيء تراه فرنسا مناسبا. أما نحن فرفضنا ذلك ولم نقل كما قالوا هم. فقرر الفرنسيون إرجاع هؤلاء إلى المغرب وبقينا نحن معهم إلى أن توصلنا إلى الخطوط العريضة لحل المشكل. ويتعلق الأمر بحسم مسألة ما إذا كان يجب أن يعود السلطان قبل أن تتشكل الحكومة، أو أن تتشكل الحكومة قبل عودته، أم أنه يجب أن تشكل حكومة انتقالية قبل عودة السلطان؟ وما إذا كانت هذه الحكومة تمثل الجميع، أو أنها يجب أن تكون مشكلة فقط من الأحزاب.
قلنا لهم إننا لا نستطيع مواصلة محادثاتنا قبل أن يتوجه وفد منا إلى السلطان. وقد كنت أنا من أعضاء الوفد الذي ذهب رفقة السي الرامي وعبد القادر بن جلون، أما الوفد الآخر الذي ذهب معنا في نفس السيارة فكان مكونا من الحاج عمر بن عبد الجليل وعبد الرحيم بوعبيد. وهناك صورة لنا مع محمد الخامس، سأبينها لكم.
-حسنا، يأتي بالصورة ويتحدث مشيرا إليها...
هذا ولي العهد وإلى جانبه الأمير مولاي عبد الله، كلهم توفوا إلا عبد ربه ينتظر دوره. ذهبنا عند محمد الخامس رحمه الله وأخبرناه أننا قلنا للفرنسيين لا حكومة قبل رجوعك إلى المغرب. كان رحمه الله يتبنى سياسة واقعية وقال لنا «الله يهديكم ما توقفوش البيضة فالطاس»، أنشئوا هذه الحكومة وحين أعود إلى المغرب سأرى ما يمكن فعله. خرجنا من عنده ونحن غير موافقين على ما قاله، وأتفقنا أنه بإمكاننا الاستمرار في العمل إلى حين عودته.
عاد محمد الخامس بالفعل واستقبله الحزبان السياسيان اللذان كانا موجودين في الرباط )الاستقلال والشورى والاستقلال). قسمنا الرباط إلى قسمين، أنصار حزب الشورى والاستقلال اصطفوا على طول الطريق الرابطة ما بين المطار ومدخل المدينة أما أنصار حزب الاستقلال فانتشروا في المنطقة الرابطة ما بين مدخل المدينة والقصر الملكي. هناك صور تؤرخ لذلك.
بعد ذلك اتفقنا على تشكيل الحكومة، وكان أول ما قاله لنا الاستقلاليون، أنهم يرفضون أن يشارك معهم فيها أي حزب آخر. قالو لنا «حنا اللي جبنا الاستقلال، حنا اللي جبنا الاستقلال». باش جابو الاستقلال؟ حين نفي علال الفاسي ألقي القبض على السي محمد بلحسن الوزاني ونفي هو الآخر في نفس اليوم، وقضايا معا في المنفى نفس المدة، أي 9 سنوات.
كيف يقول الاستقلاليون إذن إنهم عملوا كل شيء لوحدهم؟
إثر ذلك تبين أن قوات في قلب حزب الاستقلال تريد أن تأخذ الحكم، النقابيون والمقاومون قالوا بدورهم، كما قال السياسيون في الحزب، إنهم هم الذين أتوا بالاستقلال للمغرب. نفس الإشكالية ظهرت مجددا، وهي شخصنة الحكم وأحاديته. بعد ذلك انشقوا وخرجوا من حزب الاستقلال ليؤسسوا «الاتحاد الوطني للقوات الشعبية»، وهو الحزب الذي شاركنا فيه نحن أيضا في حزب الشورى والاستقلال، وكنت أنا مكلفا في الكتابة العامة...
حتى لا أطيل عليك، ما أريد التأكيد عليه هو أن السؤال الذي كان يسكن الفاعلين السياسيين آنذاك هو من يحكم المغرب؟ والجواب الذي كان عند كل طرف هو أنا ولا أحد غيري. وفعلا، عندما دخلنا إلى الحكومة جراو علينا وأخرجونا منها. بعد ذلك ضغطوا على محمد الخامس وأخرجوا 6 وزراء غير منتمين سياسيا. ونصبت الحكومة اليسارية تحت قيادة الحاج بلافريج، فقام المغرب كله ضد حزب الاستقلال، وليس ضد محمد الخامس. قام الريف أولا لأن عبد الكريم الريفي )الخطابي) كان يريد تحرير المغرب كله. تشاجر مع علال الفاسي في القاهرة ومنعه حتى من أن يصل إلى باب داره. قيل إن علال الفاسي أتي يوما إلى باب بيت الخطابي فقال له «ما تعاودش تجي لعندي».
باستمرار...عبدالهادي بوطالب: الحسن الثاني كرئيس دولة مسؤول أخلاقيا عن انتهاكات حقوق الإنسان في عهده
كان الخطابي يعتبر الذين شاركوا في إيكس ليبان خونة؟
أقول مجددا إن الموضوع هو من يحكم المغرب وادعاء كل طرف أحقيته في ذلك. هذا هو محور هذا العرض. المقاومون كانوا يقولون إنهم من أتى بالاستقلال، ولولا جيش التحرير لما أمكن للسياسيين سواء الاستقلاليون أو الشوريون قطف ثمرة الاستقلال. الفقيه البصري كان وراء هذه الفكرة. بالمقابل يقول التاريخ إن الحكام هم السلاطين. بالتالي أصبح المقاومون في صف معارضة السلطان وليس معارضة السياسيين فقط. السلطان من جهته يعتبر أن عنده مشروعية تاريخية تمكنه مثلا من تعيين الوزراء واستدعائهم...
إصرار كل طرف على اعتبار أنه هو الوحيد الأحق بالحكم عقد الوضع وقطع الطريق على أي تفاهم. وهكذا وقعت مشاكل ما بين السلطان ومحمد بلحسن الوزاني، لدرجة أنه ذهب إلى سويسرا و قال «لن أعود، يجب أن نبحث عن حل ما مع حزب الاستقلال». حكى لي الحسن الثاني يوما أن الحاج أحمد بلافريج ذهب إلى السلطان ليشتكي له ضياع هيبة الحكومة وتطاول الناس عليها. فقال السلطان «لقد أعطيتكم السلطة، والهيبة من عند الله، إذا لم يعطها لكم فلا تطلبوها مني». كان حكيما وبسيطا في كلامه. حكمة البسطاء أو بساطة الحكماء كما تريدون.
اشتد الصراع ووصلنا إلى مرحلة أخرى، مرحلة الخمسينيات. بدأ حزب الاستقلال يمارس الإرهاب ضد حزب الشورى والاستقلال، فتم اغتيال عدد من الناس. كانت هناك محاولة لتوحيد منظمة «الهلال الأسود» مع تنظيم..
)مقاطعا) لا، لا، كانت هناك اغتيالات استهدفت عددا من الناس. ابراهيم الوزاني، الذي كان معنا في اللجنة التنفيذية لحزب الشورى والاستقلال، سجن في دار بريشة وذهب عنده علال الفاسي وبصق عليه الوزاني. فقال له «سأقتلك الآن».
أما عبد القادر برادة فاختطفه شخص يدعى جوهينة، وجوهينة كان كوميسيرا وضعه محمد الغزاوي (مدير عام الأمن الوطني) هو وجيشه تحت تصرف علال الفاسي، وكان حارسه الخاص. عبد السلام الطود كان هو الآخر رفقة عبد القادر برادة حينما تعرضا للاختطاف. كانو يختطفون الناس ويعذبونهم. ثم سرعان ما دخلوا في صراع مع «الحركة الشعبية»، التي لم يقبلوا أن تشاركهم الحكم.
تقصد ما حدث مع عباس المساعدي؟
آه المسعدي.
هل كان المساعدي منتميا للحركة الشعبية أم أنه كان مرتبطا بالمصريين وبمحمد بن عبد الكريم الخطابي، ضد إيكس ليبان؟
كان يقال إن بنبركة قتله، لكنني لا أظن ذلك. أنا لا أتهم أحدا. ما يهمني هو أن أؤكد على أننا لم نتفق وأصبح المغرب مشتتا موزعا. أخذ فريق من الحركة الوطنية، أو نسب إليه، أنه أخذ يفكر في التآمر على السلطان وقتله أو تنحيته وإبعاده.
أنت تتحدث عن الستينيات أليس كذلك؟
الستينيات..
لأنه كانت هناك مؤامرة ضد محمد الخامس في الخمسينيات اعتقل فيها عدد من الناس ثم عفا عنهم محمد الخامس في ما بعد؟ ثم هناك أيضا مؤامرة الستين.
أنا أتكلم عن الأحداث التي أعرف جيدا. أنا تنتكلم لك على الأحداث اللي تنعرفها بزاف. اللي ما عندها معلومات ما يمكن ليش نتحدث عليها. المهم أنه كان هناك اتجاه لدى طائفة من الحركة الوطنية لتصفية الحساب مع الحسن الثاني عبر وسائل غير مشروعة. هل هذا صحيح أم لا؟ هذا ما قاله الأمن وأكده الحسن الثاني. بكل صراحة الأخير كان يجد نفسه في موقع دفاع عن النفس. لأنه هو الأخر، وهذا خطأ من طرفه، كان يعتبرأنه الوحيد الذي يجب أن يحكم.
لكنني لا أقول إن الحسن الثاني تولى بنفسه التعذيب أو أنه ذهب إلى تازمامارت ليشرف على تعذيب الناس. قال لهم (يقصد لرجاله) «عملو شغالكم». الآخرون أيضا الذين كانوا يريدون أن يسيطروا على الأمن كانوا يحاولون الوصول إلى السلطة، كانت الأمور تدور في هذه الحلقة. يجب أن نحلل التاريخ انطلاقا من هذا المنطق العقلاني نوعا ما.
ربما كان أن رجال الأمن يضخمون هذا الحادث أو ذاك وينسبونه إلى معارضي الملك لكي يؤكدوا له حاجته إليهم. بالتالي يزيد من قوتهم وسلطتهم ويتركهم يشتغلون كما يشاؤون بلا محاسبة ولا مراقبة. وهو، بكل صراحة، كان كسولا في هذا الباب. يعني يلا كان شي أمور ماشية خلي ماليها يعديو. هكذا فوض الحكم لأفقير ثم الدليمي، وفوض الحكم في الأول إلى اكديرة ثم إلى البصري. عندما تطرق عليه الباب يقول لك «ارتاح هاد القضية في يد فلان، هادي لا بد نعرفوها».
أنا لا أدافع عنه، فهو كرئيس دولة مسؤول أخلاقيا، لكنه غير مسؤول جنائيا. لأنه لم يباشر الانتهاكات والتعذيب، بل باشرها أعوانه، ويجب أن تتم مساءلة هؤلاء. لحسن حظهم أنه لم يسمح لهيئة الإنصاف والمصالحة أن تستمع إليهم مباشرة أو أن يأتوا ليعترفوا أمامها. -نحن نريد أن نستمع إليهم، لكن إلى حد الآن ليس هناك أي اتفاق لأن هناك من يطالب بمحاكمتهم، ونحن لسنا محكمة.
أجل، سأعود إلى عرضي. كانت الانتهاكات مستمرة في كل المدن، فقط يختلف الفاعلون أما المبدأ فكان هو هو لدى الجميع ، أي من يصل إلى الحكم وينفرد به سواء بالوسائل المشروعة أو غير المشروعة. نفس الشيء قامت به الهيئات السياسية والملك وأجهزة الأمن والجميع. لكن ما الحل؟ الحل في نظري هو تسريع الانتقال الديمقراطي في البلاد، إذا لم نسرع في إنجاز الانتقال الديمقراطي سنبقى في الوضع الذي يعتبر فيه الحاكم أنه يحكم ضدا على إرادة الآخرين. يجب تجاوز هذه المرحلة بسرعة، يجب أن نربي الأجيال الصاعدة على الديمقراطية ونبين لها مفاسد الاستبداد والديكتاتورية وأثرها على الأمة حتى لا يتكرر ما جرى. يجب أن يدرس هذا التاريخ في المدارس، دون أن نسمي الفاعلين بالضرورة، كما فعلتم أنتم، ودون أن نحمل المسؤولية لأي كان. إذا لم نفعل ذلك فسوف يتكرر ما حدث بالتأكيد، سيحدث شيء ما وسيأتي محمد السادس ليقول إنني جربت الديمقراطية وإنها لم تنفع، وسيأتي من يقول له إن هناك من يتآمر عليك ويخلق له عدوا ونصنع تازمامارت أخرى.
نحن في حاجة إلى الإيمان بالحكم الجماعي وبأنه هو الحكم الوحيد الذي يمكن أن ينقد الذات و يضمن الاستقرار و استمرار التنمية، لأنه كلما وقعت مشكلة سياسية تتعطل التنمية، ولأن جزء من الأمة لا يشارك فيها. في نظري حكومة فيها الأحزاب السياسية والأحزاب الوطنية مفيدة لتحقيق التنمية. ما معنى أن يكون على رأس الحكومة رجل لا منتمي؟ لماذا؟ شخص لا منتمي على رأس حكومة معناه استمرارية الحكم المطلق، لذلك أظن أنه يجب أن نراجع أنفسنا وأن يتفق جميع الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين على أنه لا خير ولا سعادة ولا تقدم ولا تطور إلا بالإيمان بالحكم الجماعي.
مبني على المؤسسات
أجل مبني على المؤسسات.
-أستاذ عبد الهادي شكرا على هذا العرض الأول المهم جدا. لكنني أريد العودة إلى الحديث عن الناس الذين كانوا يقومون بأفعال خارجة عن القانون...
حدثت أعمال خطيرة حمل فيها السلاح، ليس فقط من طرف الدولة، منذ 1955. هناك حادثة سوق الأربعاء، حيث جاء استقلاليون مسلحون بالسكاكين وضربوا 102 من شباب الشورى والاستقلال وقتلوهم وكان شقيق أحرضان هو قائد المنطقة. أحد أشقائي كان هناك وأفلت بأعجوبة. قبضوا على شقيق أحرضان وشرعوا في القتل بينما كان هؤلاء الشبان في تجمع خطابي.
هل هناك إمكانية للحصول على لائحة بأسماء هؤلاء الضحايا؟
هذا ما سمعته آنذاك ولم أحصل على هذا الرقم من إحصاء رسمي لحزب الشورى والاستقلال، هناك رسالة للسي محمد بن عبد الكريم يتحدث فيها عن عدد الضحايا، الحاج أحمد معنينو كتب رسالة عن دار بريشة.
تقصد الكتاب الذي كتب مقدمته توزكاني؟
و بمجرد ما وزعوه على المكاتب في المساء جمعه الاستقلاليون وأحرقوه في المغرب كله. الحاج معنينو يقول في هذا الكتاب بأن السي علال الفاسي يذهب في المساء إلى دار بريشة ويقول لهم «و لا تشرب بلا طرب فإني رأيت الخيل تشرب بالصهيل»، ثم يشرعون في تعذيب الناس. لكنني أؤكد أنني لا أملك أدلة على هذا.
-أحد ضحايا دار بريشة سمعت منه نفس الكلام وهو ما يزال موجودا على قيد الحياة.
علال الفاسي كان مشرفا على المليشيات التي كانت تعذب أعضاء الشورى و الاستقلال في الشمال هو وجهينة. هذا معروف. هناك حادثة أخرى مهمة وهي قتل عبد الواحد العراقي أمام باب بيته رميا بالرصاص. لماذا وقع ذلك؟ لأن محمد الخامس استدعانا نحن في حزب الشورى والاستقلال، وكنا حينها في الحكومة، وقال لنا بأنه يجب أن نحل الفرقة المسلحة التي كانت تابعة لنا في جيش التحرير، على أساس أن الدولة أنشأت جيشها النظامي وأنه ليس هناك ما يمكن أن يقع، وأوضح لنا أنه طلب من الاستقلاليين نفس الطلب وأنهم استجابوا له فما كان منا إلا أن استجبنا نحن أيضا. ذهب السي عبد الواحد العراقي إلى قادة هذا الفرقة المسلحة وكان عددهم 6، فقدمهم إلى محمد الخامس وسلموا عليه وقال لهم «سيرو دخلو فحالكم، دابا نتوما رجعتو مدنيين، والسلاح ديالكم عطيوه للجيش». حينها قال السي علال الفاسي في القاهرة «أبشركم أنكم ستسمعون خبر اغتيال شخصين خلال هذا الأسبوع، عبد الواحد العراقي و عبد الهادي بوطالب». فكان أن قتل السي عبد الواحد العراقي لما رجع من الرباط متجها إلى بيته في فاس.
البصري أراد أن يصنع صحراء بدون صحراويين
بوطالب قال إن تعامل المغرب مع قضية الصحراء كان سليما لكن تعامله مع الصحراويين كان سيئا تحملت مسؤوليات أخرى بعد ذلك؟
لما بدأ الحديث عن حقوق الإنسان، وبكى الحسن الثاني، أراد إنجاز التناوب التوافقي... قرر تأسيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان وأراد أن يعينني فيه، رغم أنني كنت حينها في الإيسيسكو. لكنه كان يعلم أن لي اتجاها معينا ولم يكن يطمئن إلي ويطلعني على سر من الأسرار. لم أكن لأوافق على إعطاء المؤسسات الأمنية صلاحيات كبيرة والاتكال عليها والهروب من المسؤولية.
ما رأيك في الانتهاكات التي شهدتها الصحراء؟
قضية الصحراء هي في الواقع قضيتان. الأولى تتعلق بالصحراء كجزء لا يتجزء من المغرب، والثانية تتعلق بتعامل المغرب مع الصحراويين سكان الصحراء. فأما تعامل المغرب مع قضية الصحراء فكان سليما، وأما تعامله الأمني مع الصحراويين فكان سيئا. لا تنسى أن اعتقالات بدأت عهد أوفقير.
قبل مظاهرة طانطان؟
اعتقل عدد من الصحراويين قبل 1975، تاريخ المسيرة الخضراء، واتهموا بأنهم متآمرون.
كان الدليمي حينها؟
أجل كان الدليمي. ثم جاءت سياسة البصري التي كانت تقول إننا سنكسب الاستفتاء بطريقتين. الطريقة الأولى علنية، بحيث كان يأتي بأشخاص من خارج الصحراء ويدخلهم إليها بغرض الرفع من عدد سكان الصحراء. أما الطريقة الثانية فكانت تتمثل في خلق قوات سياسية في الصحراء موالية للنظام. هذا الأمر أثر على الصحراويين الذين أصبحوا يرون أنهم سيبقون في درجة دنيا، إذا عادوا إلى بلادهم، أقل من الطبقة المشكلة من سكان الصحراء الذين أتى بهم البصري. البصري يتحمل المسؤولية في ذلك، وهذا راجع إلى التفويض الكامل الذي منحه إياه الحسن الثاني... وحينما رأى البصري عدم استجابة الصحراويين بدأ يقول إن الاستفتاء لن يكون في صالحنا.
كان يعتقد أن الاستفتاء غادي يصوب ليه شغالو أو غادي يضمس الكارطة. يدير تماك شي أحزاب أو ما يسمى بالأحزاب الإدارية كيما دار هنا. يجيب السكان يرحلهوم من هنا ومن هنا ويصنع صحراء جديدة، صحراء بصحراويين جدد. البشير الدخيل قال لنا إن المغرب ارتكب خطأ بحديثه عن الاستفتاء التأكيدي وإن المغاربة لم يفهموا أن الصحراويين مرتبطون ثقافيا واجتماعيا بموريطانيا واقتصاديا بالمغرب وعاطفيا ووجدانيا بالبوليزاريو. «أهل مكة أدرى بشعابها». هو يعرف عن الصحراء ما لا نعرفه نحن. ولكن للأسف هذه هي السياسة اللي ارتكبت في الصحراء.
هل كان هناك ضغط دولي فرض على المغرب قبول الاستفتاء؟
سبق لي أن ألقيت محاضرة أجمع الجميع على أنها أحسن ما سمعوا عن موضوع الصحراء، كان ذلك في وزارة الخارجية، وكان يفترض أن يشارك فيها عبد الوهاب بنمنصور وعباس بنمنصور لكنهما تخلفا عن الحضور وبقيا مع الملك. قلت إن هناك أربعة إشكاليات. الأولى هي إشكالية الاستفتاء، والثانية هي المفاوضات المباشرة بين المغرب والبوليزاريو، والثالثة هي قبول المغرب تغيير دور جيمس بيكر من وسيط إلى حكم، أما الرابعة فهي الوضع الآن مع الأمم المتحدة.
ففيما يتعلق بالاستفتاء قلت إن الملك قبل به تحت ضغوط دولية. ولكنه أصبح يقول إنه استفتاء تأكيدي. ومعلوم أنه لا يمكن أن يكون الاستفتاء تأكيديا. اللغة التي كان يتكلم بها ليست قانونية وإنما سياسية. كان يقول مرارا «والله لن أترك لهم شبرا في الصحراء يأخذونه. هذا موروث عندي من تاريخ أسلافنا وأمجادهم لا أضيعه».
كان من عادته، كلما ضاقت الأمور، أن يخرج بلعبة جديدة. كان لعاب ديال الكارطة، ماكانش كيعرف أشنوا هو البوكير، لا ماشي البوكير اللي كيلعبو السي أحمد عصمان، البريتش. واحد النهار قالوا ليه نعلموك البريتش كيفاش كيتلعب، بداوا كيعلموه وقال ليهم «لا لا أنا بغيت واحد الحاجة غادي نجيبو البريتش والتوتي أو غادي نلعبو واحد اللعبة سميتها البريتش التوتي»، ومزج داك الشي وبدا كيعمل شي من التوتي أو شي من البريتش. كان يفعل نفس الشيء في السياسة.
حينما كان يرتدي شاشيته وجلبابه وسلهامه ويأتي إلى البرلمان فذاك هو السلطان. وحينما كان يجلس الدروس الحسنية، ويخطب هو الآخر أمام الحاضرين، فذاك هو أمير المؤمنين. وحينما يرتدي البذلة العصرية فإنه يكون ملكا. هذا ما قاله عبد الله العروي في أحد كتبه. كان عجيبا. كان متعدد الشخصيات، لا أقول مزدوج الشخصية، بل رباعي أو خماسي...
السيد عبد الهادي أظن أننا أتعبناك؟
على كل حال أنا تحدثت معكم بقلب مفتوح ودون أي خلفيات. ما قلته عن حزب الاستقلال ليس فيه أي حقد. أنا ذكرت حقائق تاريخية. أكيد أكيد ليس هناك أي مشكل.
أنا فقط جهرت أمامكم بما أفكر فيه همسا. ما أود التأكيد عليه أن المغرب محكوم عبر قرون بالحكم المشخص غير المؤسس، ومازالنا لم نصل إلى حكم المؤسسات. سبب التردد في الانتقال الديمقراطي، الذي يسير بخطى وئيدة، هو أنه متأرجح بين الخروج من عهد الحكم المشخص. ولكن هذا شيء صعب، فما أفسدته القرون لا تصلحه السنون. أحيانا يأتي شرطي بسيط ويشرع في الحديث وكأنه هو الدولة، أما القانون فيضعه تحت حذائه. يعني أنه فوق الدولة وفوق الجميع.
يقال إنه في أيام زمان شحت المواد الأولية بسبب إحدى الحروب، وكان هناك رجل في فاس يبيع الفحم بالتقسيط، كان يدعى الحسين وكان الناس يقصدونه بأعداد كبيرة وأعطوه قيمة كبرى فبدؤوا ينادونه السي الحسين ويدعون معه «الله يبارك فيك أ سيد الحسين الله يبارك فيك آ مولاي الحسن» (الكل يبتسم)... حتى بدأ يمارس السلطة».
من حسن حظي، والله العظيم أقولها لكم كإخوة، لم أقتنع يوما بهذا المفهوم للسلطة. لذلك كنت أدخل وأخرج (يقصد إلى السلطة) دون أن أفقد شيئا. كاين اللي كيعقد حياتو، كيدخل للسلطة وكيبني لراسو حد، وكيولي ملي كيبغي يخرج من ذاك الشي كيقول آ آش غادي يوقع لي. آ ش غادي يوقع ليه؟ غادي يحماق.
هناك فراغ فكري. هذه ليست مجاملة، ولكن بكل صراحة أنت أستاذ وعالم ولديك عمق فكري وثقافي، وهذا هو ما مكنك من التوازن. أنا تربيت في بيت عائلة يقولون عنها في فاس إنها من الشرفاء. بكل أسف هذا التراتب موجود عندنا، والحمد لله أننا نتخلص منه. والدي كان نقيب الشرفاء الطالبيين والمزوار ديالهم. كنت أخرج معه، وكانت هناك عادة في فاس تتمثل في أن يقول الأب لمن يلتقيه «هذا ابني ادعو له دعوة صالحة»، فاس قرية صغيرة أو حومة كبيرة... لاحظت أن والدي كلما قيل له «آمولاي محمد شي دعوة صالحة»، يقول «آ سيدي نبداوا بالدعوة الأصلية الله يثبت النسب، الله يثبت النسب». لم أفهم ذلك وبدأت أتساءل، فقال لي والدي «مزيان ملي وضعتي لي هذ السؤال، بديتي تفهم. عندها جوج معاني: المعنى الأول الله يثبت النسب ماديا. لهلا يجعل يكون الشريف اللي كيقول لك راه ولد الرسول صلى الله عليه وسلم تجيب ليه شي وحدة فاجرة شي ولد من الزنا ويتسمى شريف. هذا الشي ما عندنا علم به ويقين. ثانيا الله يثبت النسب لها مصدرها من القرآن لما وقع الطوفان وقال نوح لربه «ربي إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق» قال له «يانوح إنه ليس من أهلك. إنه عمَل غيرَ صالح». أو قرأ أنه عمِل غير صالح. قال له هذاك مهما تتقول ولدك راه ماشي ولدك. ماثبتش النسب ديالو ليه. قال ليه لهلا يجعلنا نعملوا شي حاجة ولما نمشيو غدا يوم القيامة نقولوا شفع فينا ياجدنا يارسول الله ويقول لينا ما عملتوش مزيان». قال لي «الشريف خاصوا يكون متواضع. عمرك ما تقول أنا شريف ولا أنا ولا أنا».
لكن هذا العصر ليس عصر التفاخر بالآباء والأجداد، فنعرة القبلية كانت في الجاهلية، والجاهلية كان فيها نظام قبلي والنظام القبلي يبقى مؤثرا على طبيعة الحكم. فالقبيلة يحكمها شيخ القبيلة، وحينما نعتبر أن الحكم مازال ذا طبيعة قبلية فإن الكبير هو الذي يحكم. الملك كيحكم لوحده والباشا يحكم لوحده والقائد يحكم لوحده والشيخ يحكم لوحده.
ليست هناك مؤسسات تحد الحكم الفردي
هناك مقولة صينية، وما أجملها وما أروعها وما أفيدها، تقول «إن إعطاء الناس سلطة الآلهة يجعلهم يتصرفون تصرف الحيوانات. c'est ça، إذن المسألة المؤسساتية بطبيعة الحال. هناك من يقول اليوم إن النسيج السياسي لا يستطيع أن يكون في مستوى المؤسسات. هذا التبرير لا يمكن الأخذ به وإلا سنرجع إلى مقولة أن الديمقراطية لا بد لها من ديمقراطيين وسنبقى ننتظر الديمقراطية إلى أن نجد الديمقراطيين... إلى ما لا نهاية.
ماهي في نظركم الأمور الأساسية التي ينبغي فعلها لتحقيق الانتقال الديمقراطي؟
لدينا عدد من القوانين يجب مراجعتها. آخر مثل، في هذا السياق، تحفظنا على عدد من الاتفاقيات الدولية فيما يخص حقوق المرأة ثم تجاوزناها في مدونة الأسرة دون أن ترسل وزارة الخارجية مذكرة ترفع فيها تحفظات المغرب السابقة. يجب أن نلائم قوانيننا مع كل الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان والحرية والديمقراطية. لكن النصوص وحدها لا تكفي، يجب خلق المواطن الديمقراطي تفكيرا ووجدانا، وهذا لا يتأتى إلا عبر التربية في المدارس.
بالموازاة مع الإصلاح؟
يجب أن تكون هناك دروس تندد بالرشوة وتعدد صفات المواطن المسؤول. تخليق رجل السلطة يبدأ من تخليق المواطن في السن الأولى. ماشي يهضرو على تخليق رجل السلطة ويقولها الملك في خطاب ملكي وما نعملوا حتى حاجة في الكوميساريات ولافي...
تعميم التربية على الديمقراطية وعلى الحريات وعلى حكم المؤسسات وليس على تشخيص الحكم. وعلى أن المؤسسات يجب أن تكون هي الراجحة، في السلطان على الأمور الأخرى. حينئذ ستكون الديمقراطية عند رجل السلطة عقيدة وإيمانا وسلوكا. يجب أن يصبح هذا أمرا واقعا لا أن تتخذ القرارات بشأنه فقط.



الخميس، 14 يناير 2021

استعمال العنف ضد الحقوقيين المشاركين في الوقفة الرمزية التي دعى إليها منتدى الحقيقة والإنصاف أمام المعتقل السري بالنقطة التابثة 3 بطريق زعير

 

استعمال العنف ضد الحقوقيين المشاركين في الوقفة الرمزية التي دعى إليها منتدى الحقيقة والإنصاف أمام المعتقل السري بالنقطة التابثة 3 بطريق زعير


فرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بالرباط يدين استعمال العنف ضد الحقوقيين المشاركين في الوقفة الرمزية التي دعى إليها منتدى الحقيقة والإنصاف أمام المعتقل السري النقطة التابثة 3 بطريق زعير مساء يوم الأربعاء 12 يوليوز 2006 والتي تتزامن مع الذكرى الحادية والثلاثين لفرار معتقلين منه من بينهم الحسين المانوزي، ومحمد اعبابو سنة 1975 مما كشف عن وجود هذا المعتقل والانتهاكات الجسيمة التي كانت تحدث داخله.
على إثر التدخل الأمني العنيف لمنع الوقفة الرمزية الاحتجاجية التي دعى إليها المنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف يوم الأربعاء 12 يوليوز 2006 أمام المعتقل السري الرهيب الكائن بطريق زعير وتعرض العديد من الحقوقيين المشاركين للدفع والضرب والتعنيف، اجتمع مكتب فرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بالرباط لتقييم هذه الواقعة معتبرا أن السلطات الأمنية بتدخلها هذا تسجل مرة أخرى انتهاكا إضافيا للحق في السلامة البدنية كما تنص على ذلك المواثيق الدولية لحقوق الإنسان.

وإذ يدين مكتب الفرع الانتهاكات التي مارستها السلطات الأمنية في هذه الوقفة فإنه يحمل المسؤولية لوزارة الداخلية بشكل خاص وللحكومة بشكل عام نظرا لتجاهلها للمبادئ الكونية لحقوق الإنسان.

عن مكتب فرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بالرباط
عبد السلام أديب: رئيس الفرع


الثلاثاء، 12 يناير 2021

ضمن أرشيف «لوموند ديبلوماتيك»، ومن أقوى الروبورتاجات الصحفية لسنة 1972.. السنة التي تزلزل فيها عرش الحسن الثاني!!

 ضمن أرشيف «لوموند ديبلوماتيك»، ومن أقوى الروبورتاجات الصحفية لسنة 1972.. السنة التي تزلزل فيها عرش الحسن الثاني!!


صدر مؤخرا كتاب هام يضم أهم الروبورتاجات الصحفية التي نشرت بجريدتي «لوموند» و «لوموند ديبلوماتيك» ما بين سنتي 1960 و1975. وهو الكتاب الذي صدر تحت عنوان «حين كانت الخلفية حمراء».
يحتوي الكتاب، من ضمن ما يحتويه من روبورتاجات، على روبورتاج أنجزه سنة 1972 الصحفي والكاتب الفرنسي جيلبير كونت، حول مغرب ما بعد انقلابي الصخيرات سنة 1971 والهجوم على الطائرة الملكية سنة 1972. وهو الروبورتاج الذي يتضمن عددا من التفاصيل المثيرة والهامة، نرى أنها تصلح اليوم مادة للتأمل كوثيقة شاهد أجنبي عن أحداث زلزلت مغرب بداية السبعينات. الروبورتاج الذي نترجمه هنا بتصرف، نشر في أواخر دجنبر 1972، تحت عنوان مثير: «ممنوع الخطأ ثانية».
خلف أطلال المسجد العتيق المشيد في عهد السلطان الموحدي أبو يوسف يعقوب المنصور، والذي لم يتبق منه غير أعمدة متراصة مكشوفة على الهواء الطلق، تنتصب صومعة حسان، منذ ما يربو على ثمانية قرون، غرب مدينة الرباط، كرمز شاهد على مجد وطني غابر.
في بداية حكمه الذي شارف اليوم على أحد عشر عاما، قرر الملك الحالي للمغرب، تشييد ضريح، على الطرف الآخر من بقايا المسجد، هو عبارة عن تحفة معمارية مكسوة بالرخام الأبيض، حيث يرقد الآن جثمان السلطان محمد الخامس، ليكون الملك بذلك قد منح في الآن عينه، قبرا لوالده وضريحا للملكية.
من حيث عظمتها وكلفتها، قد تستفز هذه المعلمة جمهور المثقفين، غير أنها حين تستقبل كل يوم، تحت قرمودها الأخضر الزاهي، عشرات العائلات، بنسوتها المنقبات، الحاملات رضعهن فوق ظهورهن، والمتشحات بجلاليب مزركشة، فإن كلا من البدويين القادمين من القرى المجاورة و العمال الآتين من المدن، يأخذون جميعهم قسطا من الراحة أمام هذا الحلم الأسطوري ، تماما كما كان الشعب الباريسي لفترات طويلة يتبرك بالأمجاد النابوليونية تحت قبة ضريحه خلال القرن التاسع عشر.
حتى اليوم، لم يكن للهجوم الدامي على قصر الحسن الثاني بالصخيرات من قبل الضباط الشباب بمدرسة هرمومو، في يوليوز 1971، ولا للهجوم على طائرته الملكية في عرض السماء، ثلاثة عشر شهرا بعد ذلك، أدنى تأثير على تدفق الحجيج الذي يزور هذا الضريح. غير أن الولاء الشعبي لذاكرة الرجل الذي اعتبر دوما الصانع الرئيسي للاستقلال، لم يعد كافيا الآن، لضمان الولاء المطلق للملكية في كل تجلياتها.
في مكتبه الفاخر، كان وزير الداخلية محمد بنهيمة، مع ذلك، يؤكد لنا العكس بعبارات صارمة «لا تنخدعوا ، 80 في المائة من المواطنين لايهتمون تماما بالشؤون السياسية. لمعرفة وفهم هذا البلد، يجب التحدث مع ساكنته بجميع أشكالها. فما عدا المدن، ومن بين جميع المنخرطين في الصحف الأجنبية اليسارية، لن تجدوا أي شخص يؤيد الثورة، كما يزعمون. أما في البوادي، والتي مازالت تضم بين 65 و70 في المائة من الساكنة، فإن الناس لا ينشغلون إلا بالخبز وبفرص العمل وبتدريس أبنائهم.. غير هذا، لاشيء يهمهم، وبالأخص خطابات المعارضة.» ..
في هذا الوقت بالذات، كان رئيس الحكومة الأسبق، عبد الله ابراهيم، يتحدث في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بلغة أخرى مغايرة تماما، حيث كان ينسب «الانهيار الحالي» الذي تعيشه المملكة «للسياسة العامة المفروضة من فوق على الشعب المغربي، والقائمة على الاستغلال الطبقي، والتنكر لمطالبه الحيوية، وعلى الديماغوجية والفساد والعنف...»
مباشرة بعد نجاته بأعجوبة من الانقلاب العسكري الثاني في 16 غشت 1972، قام الحسن الثاني بوضع تشخيص متشائم للوضع القائم: «منذ حصول بلدنا على الاستقلال ، نادرة هي البنيات التي بقيت سالمة، يجب الاعتراف بأن كلا من المؤسسات الروحية، والادارية والحكومية والعسكرية وحتى الأحزاب، لم تعرف إلا تدهورا، فهذه القوى انخرطت في تناقضات واختلافات وصراعات ما كان لها إلا أن تعبد الطريق لكل من أراد زعزعة النظام أو كل من يبتغي المس بقيمنا المقدسة»
بعيدا عن كل الشروخ التي يمكن أن تكون قائمة بين أي نظام ومعارضيه، فإن هذين الحكمين الأخيرين يؤشران على وجود أزمة وطنية حقيقية.
خلال هذا الصيف وصف بنهيمة المحاولة الانقلابية الثانية ب«الحادثة العابرة»، غير أنه بشيء أكثر واقعية ، وصف الحسن الثاني هاتين المحاولتين، في خطابه الموجه الى البرلمان ب «زلزالين قويين»..
إن هدوء البوادي، كما هو هدوء المدن، يفسر جيدا هذا الموقف، فالصمت المطبق يعم من طنجة إلى واحات أرفود على أطراف الصحراء، ليس هناك أي تفتيش من قبل الشرطة، ولا أي خلل بالبوادي يعرقل حركية المرور على الطرق التي تعبرها يوميا آلاف السيارات والشاحنات.. وليس ثمة أية إضرابات تلوح في الأفق أو تهدد الأمن العمومي..
وفي قطاعات اقتصادية كاملة، كما هو الشأن بالنسبة للمكتب الشريف للفوسفاط، الذي يديره اليوم رئيس الحكومة الأسبق، كريم العمراني، فإن الموظفين الشباب يؤدون مهامهم بكفاءة عالية، وبفضل عملهم الدؤوب، فإن الحيوية والشباب تجتاحان كل مساء شوارع الرباط وفاس والدارالبيضاء ومكناس، حيث لا التنورات القصار للشابات ولا الشعور المسدلة لرفاقهن الشباب توحي بأي انقلاب محتمل على النظام. غير أنه في الآن ذاته، فإن أخبار المتابعات القضائية والمحاكمات السياسية، هي التي باتت تغذي أحاديث الناس في المملكة. ففي الرباط يمثل اليوم ستة وزراء سابقين أمام محكمة خاصة متابعين بالإخلال بواجبهم المهني. وفي الدار البيضاء تستعد المحكمة الجهوية للشروع في محاكمة حوالي خمسين من المهندسين والمعماريين والأساتذة المتهمين بإعداد متفجرات أو بحيازة أسلحة نارية ، ومن بين الصفوف الأولى لهؤلاء يمثل ابن رئيس حكومة آخر سابق.. وأخيرا بالقنيطرة، وخلال الشهر الماضي، أصدرت المحكمة العسكرية في أعقاب محاكمة العناصر المتورطة في الانقلاب الثاني ضد طائرة البوينغ الملكية، عدة أحكام بالإعدام .
كما هي الحال في مؤامرة الصخيرات، وما تلاها من موت الجنرال محمد أوفقير ، فإن هذه الأمور لاتعكس بتاتا أن النظام بصحة جيدة، بدءا برجل الثقة السابق للحسن الثاني. لا أحد من المنعم عليهم بأوسمة الشرف، جازف بنفسه يوما بمحاولة تقويض النظام الذي كان من المفروض أن يكون من خدامه.
في الوقت الذي كان يحمل لقبه الواعد كولي للعهد، كان ابن محمد الخامس يثير الاعجاب في محيطه بذكائه المتوقد وشجاعته النادرة.. وفي سنة 1957 كان لتنصيبه على رأس القوات المسلحة الملكية أثر بالغ في تكوين شخصية القائد لديه. ربما كانت له طموحات أكثر سلطوية. وبعد وفاة والده في فبراير 1961، ولمواجهة تخوفاته من الأحزاب، سيركز الملك الشاب بين يديه جميع السلط الدينية والحكومية.
ولم ينجح تكوينه العصري، في انتزاع الحسن الثاني من فيودالية المخزن، هذه الكلمة السحرية مازال سائقو الطاكسيات بالرباط يستعملونها أثناء نقل زبنائهم إلى ضواحي القصر الملكي. فالمعنى الأدبي للكلمة يحيل على السلطة والقوة العمومية، غير أنها في نفوس المغاربة تعني الأسرار والخبايا الملكية للقصر ..
إن عواطف الشعب الحقيقية تجاه رئيس الدولة، رغم أخطائه، الذي يستمد رمزيته وقدسيته من أصوله ومهامه، لا تخضع بالضرورة للمنطق العقلاني الغربي. إن الشائعات التي تطلق ضد القصر، وأخبار التخبط داخله، لا تلقى أي صدى في عمق الريف أو في تافيلالت. إن تلك المناطق البدوية، المرتبطة بالعرش بشكل عاطفي، حيث العادة قرينة الإيمان، تمجد عاليا أمير المؤمنين.
إن الفلاحين، الذين همهم الأول هو الحصول على عمل قار يضمن لهم دخلا، إذا ما تبنينا تحليل السيد بنهيمة، لا يستوعبون جيدا طبيعة النظام، أمام الأحداث الدموية للأشهر 18 الأخيرة. إن خيار العنف هذا، لا يمس الولاء المتأسس في جانب أساسي منه، على الخوف من المجهول.
« إن المخزن هو الذي يحول دن أن نتصارع بيننا. إن المخزن هو ضامن النظام، بل هو النظام»، كان يجيب بعض القرويين مؤخرا، عددا من الباحثين الإجتماعيين. بل إن أحد الفلاحين قد أكد بالحرف: « لولا وجود المخزن، فإن من هو أقوى منك، إذا رآك تنتعل حذاء جديدا وجميلا، فإنه سيزيله لك بالقوة، وحينها ستمشي حافيا».
قرب مكناس، سيهتف بدويون في وجه مرشح برلماني، قبل السماح له بإلقاء خطابه: « قل لنا أولا هل أنت مع الملك أم ضده !!». وإذا كان ذلك يعكس وعيا بمجريات الأمور، وما يتهدد الملك، فإن ذلك لا يلغي تحقق تطور في الوعي. فمنذ عامين فقط، لم يكن أحد بالبادية المغربية يتخيل إمكانية، أن مغربيا سوف ينتفض ضد العرش. وفي المناطق النائية، لا تزال تهيمن هذه الفكرة على الأفئدة. وعلى المدى القصير، فإن هذه التحولات تسيئ عميقا لرمزية الهيبة الملكية. وبعيدا عن الآلة الإدارية، ليست هناك قوة سياسية منظمة، ولا حزب، ولا نقابة، تراقب أو تؤثر على هذه القوة الشعبية النائمة، التي تتميز بحذر شديد من كل ما هو قادم من المدن.
في المدن الكبرى، فإن الأزمة تأخذ أبعادا أكثر وضوحا ودقة، خاصة بين المثقفين الراديكاليين وتلاميذ الثانويات والطلبة، الذين هم جميعهم مناهضون للنظام السياسي القائم، خاصة بين الذين منهم ينحدرون من عائلات ذات حظوة. حقا، الصورة الرسمية [للملك] في كل الأماكن العمومية، وحين يتحدث عنه يقال: «جلالة الملك»، وبعض المتملقين يطلقون معنى محبة تفيد في ترقيتهم الإدارية. مثلما أن بعض زعماء المعارضة يستعملون أحيانا ذات التعبير.
بعيدا عن الموظفين المرتبطين بخدمته مباشرة، فإن الكل يهاجم القصر بعنف شديد. في العاصمة الرباط، مثلما يحدث في باقي العواصم العربية، حيث المنع والمحافظة طاغيان ويتحكمان في الرأي العام، فإن الامتعاض الشعبي يبرز من خلال القصص المختلقة حول سادة الوقت، والتي تشاع بعناية من قبل خصومهم. ففي أكتوبر أطلقوا على العاهل لقب « ل.ي.ش.» ( لن يتجاوز الشتاء). (...).
في خضم هذا الطقس من الحقد الأعمى، المثير أحيانا، فإن حجم الوعي المواطن أو الإلتزام الحزبي، غير بارز ولا واضح. وتبعا لبعض الأطروحات، فإن البلد اليوم متروك للنهب والديكتاتورية والمهانة. ولابد من تقمص دور منظف بلدي، لمعرفة إن كانت حاويات القمامة، التي تجمع كل فجر من أمام مقار سكنى الوزراء بحي السويسي الراقي، تحتوي على عدد من زجاجات الويسكي الفارغة، التي تعتبر مسا بالأخلاق عند العامة المسلمة، من قبل الطبقة الحاكمة الفاسدة.
رغم عمقها، فإن الأزمة الحالية تبررربما هذا التفاؤل لبضعة شهور قادمة، فالشعب لن يسهل عليه الانفصال عن الأمير الذي أحبه بقلب خالص، صحيح أن بعض الانتقادات والتشكيات تروج داخل أزقة المدن، وأن صورته لم تعد تؤثث منازل الدارالبيضاء، وأن الجميع يتسابق كل يومي أربعاء و سبت في التاسعة مساء، لسماع الاذاعة الليبية، حيث أتباع المهدي بنبركة يهاجمون الملكية بعنف. غير أنه لكون الوجع الوطني آت من مشاعر قوية محبطة للمغاربة تجاه ملكهم، فإن كثيرا منهم مازال يتمنى أن تعطى للعاهل مهلة أخرى قبل أن يتحول إحباطهم الى الأبد إلى حقد دفين . فإذا لم يكن يوجد حتى الآن سوى قلة قليلة من الجمهوريين بالبلاد، و كثير من الملكيين المحبطين، فإن أحدا منهم لم يعد يقبل بالملكية بالشكل التي هي قائمة عليه منذ إحدى عشرة سنة. ورغم أنهم لم يعودوا يؤمنون بهذا المبتغى كثيرا، فإنهم يأملون أن يأخذ الملك نفسه بزمام التغيير، في أفق أن يصبح «الثائر الأول للمملكة» على حد تعبير بعض البورجوازيين الليبراليين.
هذا الأمل المستحيل الذي يبدو غير قابل للتحقق، لم يفتأ مع ذلك يرخي بثقله على نفوس الكثيرين، لأن الكل يتخوف الآن من أزمة قوية، قد تستتبع الزوال المفاجئ للملك يمكن أن ينجم عنها دخول البلاد في دوامة من الفوضى، وانتقامات شخصية وعائلية وجهوية ، كما كانت معروفة قبل عهد الحماية بالعبارة الدموية «السيبة».
«رغم كل عيو به، فإن الحسن الثاني مازال الضامن للوحدة الوطنية»، كما يقول رعاياه الأبعد ما يكونون عن التآمر ضده، «فإذا ما اختفى فإن هذه الوحدة ستنهار لا محالة. صحيح أن بديلا سيطرح، غير أنه في جميع الأحوال سيمثل جهة بعينها، أو حزبا، أو وسطا بعينه.. ليكون رجل الإدارة ضد الجيش، أو رجلا من الجيش ضد المدنيين، أو القرويين ضد الحضريين، أو مدنا ضد قرى، يمكن أن يكون هذا الرجل شريفا ووطنيا، غير أنه مهما كانت المزايا التي يتمتع بها، لن يتمكن من لعب دور الحكم الأكبر الذي طالما مثله الملك. لأن هذا الأمر لم يسبق أن وقع مرة في تاريخ المغرب الطويل. إن السيبة ستندلع مباشرة في الادارات والمصالح العمومية، وفي الجيش والشرطة ومن ثمة ستسري في جميع أنحاء البلاد. والحال أنه عندما تسيل الدماء عندنا، فلا أحد يدري متى تتوقف المجزرة..»
هذه التأويلات التي لا تستساغ في الخارج، هي التي تمنح الملك صلاحيات واسعة، وقد عرف كيف يوظفها، وعبرها سعى جاهدا، ليقوي هيبته بمعاقبة المفسدين حتى في محيطه الأقرب..
بعد المحاولة الانقلابية ل 16غشت [1972] أكد الحسن الثاني بأنه: « سيظل مخلصا للفكرة المالكية التي تقول أنه لا ينبغي التردد في التضحية بالثلث، للحفاظ على سلامة ثلثي الجسم وعافيته» (...).



شاهد على العصر - الحلقة السادسة - عبدالهادي أبوطالب

 شاهد على العصر - الحلقة السادسة - عبدالهادي أبوطالب




الأحد، 10 يناير 2021

الساحة الثقافية بطنجة تبكي مؤذن سجن تازمامارت بعد وفاة المفضل المغوتي

الساحة الثقافية بطنجة تبكي مؤذن سجن تازمامارت بعد وفاة المفضل المغوتي


 تُخيم حالة من الحزن على الساحة الثقافية بمدينة طنجة ومنطقة شمال المغرب، بعد وفاة واحد من أشهر أبطال أدب السجون، يتعلق الأمر بالطيار الحربي المفضل المغوتي الذي وافته المنية، الجمعة، عن عمر يناهز 81 سنة، بعد حياة حافلة قضى جزء مهما منها في غياهيب المعتقل الرهيب “تازمامرت”.

والمفضل المغوتي، المولود سنة 1940 بمدشر ماغو بجماعة باب تازة في إقليم شفشاون، هو بطل مذكرات “ويعلو صوت الآذان من جحيم تازمامارتّ”، التي أصدرها الصحفي والكاتب بلال التليدي سنة 2009، ويحكي من خلالها تجربة السجناء الذين جز بهم في غياهب معتقل “تازمامرت” الرهيب، إثر المحاولة الإنقلابية الثانية ضد الملك الراحل الحسن الثاني.

ونعى عدد من الكتاب ومعارف الراحل، وفاة الطيار المفضل المغوتي، على رأسهم كاتب المذكرات، بلال التليدي، الذي وصفه من خلال منشور بصفحته الرسمية على موقع فيسبوك، بـ” الرجل المؤمن الذي كان سببا في تحفيظ عدد من ضحايا تازمامرت القرآن..”.


وكان الراحل، قد التحق بالطيران سنة 1961، ومن ثم رحل إلى قاعدة وليامز الأمريكية سنة 1965، إلى حين عودته إلى القاعدة الجوية في القنيطرة سنة 1967.

وفي يوم 16 غشت 1972 انقلبت حياته رأسا على عقب، فقد كان من بين ثلاثة الطيارين الذين انطلقوا من القاعدة الجوية بالقنطيرة لإلقاء التحية على طائرة الملك الحسن الثاني العائدة من فرنسا ، فاتهم بالمشاركة في انقلاب 1972، المعروف بانقلاب اوفقير.

 وتم إلقاء القبض على المغوتي عليه وعلى من بقي على قيد الحياة من المشاركين في الانقلاب وزج بهم في معتقل تازمامرت . حكم على مفضل المغوتي بالسجن 20 عاما قضى منها ثمانية عشر عاما في أهوال سجن تزمامارت الرهيب.

وعُرف الطيار العسكري المغوتي بتدينه وحفظه للقرآن الكريم، حيث لُقب بمؤذن وفقيه تزمامرت وكان سببا في تحفيظ القرآن الكريم لعدد من ضحايا المعتقل المذكور، وقد روى في كتاب “ويعلو صوت الآذان من جحيم تزمامرت” مشاهد مؤلمة ومأساوية طيلة 18 سنة من “حياة الجحيم”.


بحزن واسى عميقين تلقى المكتب التنفيذي للمنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف نبا وفاة الفقيد لمفضل المغوتي احد معتقلي المعتقل السري الرهيب تازمامارت. وبهذه المناسبة الاليمة يتقدم أعضاء المكتب باحر التعازي والمواساة لعائلته و أصدقاءه متمنيين للجميع جميل الصبر والسلوان.

الشاوي زوجة محمد الرايس: الكوميسير الخلطي طلب مني أن أصفح عنه

 الشاوي زوجة محمد الرايس: الكوميسير الخلطي طلب مني أن أصفح عنه


نشر في المساء يوم 08 - 02 - 2013

- كيف كان إحساسك عندما اتصلت بمنزلك من المستشفى، حيث كنت تشتغلين، فكان المجيب هو زوجك محمد الرايس المعانق توّا للحرية بعد 20 سنة من الاعتقال في تازمامارت، وسنة إضافية في سجن القنيطرة؟ 
شعرت بفرح مشوب بالدهشة والتوتر ورغبة في البكاء، لكن الدموع تحجرت في مقلتيّ. وعندما كنت أهمُّ بمغادرة المستشفى، فهمت لماذا استدعتني الشرطة واعتقلتني في «كوميسارية» العرفان بالرباط لأزيد من نصف يوم. وقفت في الشارع، ومن لهفتي، كنت كلما لمحت سيارة حسبتها سيارة أجرة (طاكسي)، فأطفق ألوح لسائقها بيدي. كنت كالممسوسة، لا أعرف ما أقدم ولا ما أؤخر. عندما طرقت باب المنزل، كان زوجي هو من فتح لي الباب فارتميت في حضنه وعانقته مثل طفلة ثم أجهشت بالبكاء وأنا أصرخ دون وعي. لقد بلغ بي التأثر حدا امتزجت فيه فرحة اللحظة بحزن سنوات «الحكرة» والجفاء وتوسل المسؤولين وأنصاف المسؤولين.. سنوات «ربَّيت» فيها الأمل كحيوان على حافة الانقراض، كان يضيع مني حينا فأتقفى خطواته في شوارع مظلمة بعين الإصرار العنيد على أن زوجي ما يزال حيا. عانقت زوجي كما تعانق طفلة أباها وأمٌّ ابنها، وأنا أسترجع شريط الذكريات، قبل أن يقطعه رنين الهاتف.. كان المتصل هو الكوميسير الخلطي (محمد الخلطي أشهر عميد شرطة في الاستعلامات خلال سنوات الثمانينيات)، وبمجرد أن رفعت السماعة قال لي بنبرة تهديد: «ها حنا طلقنا ليك راجلك، وخلينا عليك فالتيساع»، فجاء ردي سريعا: «نتوما اللّي خاصكم تخليوني عليكم مع راجلي ووليداتي فالتيقار، ويلا ما هنيتونيش راني ماغاداش نجمع يدي وفمي»، فضحك الخلطي، وطلب مني أن أصفح عنه وأسامحه. ولمزيد من التوضيح، فالخلطي هو الذي كان مكلفا بمراقبتي، وهو من كان يبعث رجال الأمن ليداهموا بيتي بعد منتصف الليل وليحرضوا علي رؤسائي في العمل، وكان يبعث سيارات تربض أمام بيتي وتحصي علي أنفاسي وأنفاس أبنائي وزواري، وأخرى تتعقب خُطايَ وترهبني أنا ومن يرافقني.. كل هذا كان من فعل هذا الكوميسير الذي حينما أحيل على التقاعد أرسل إلي بعض معارفنا يطلب مني أن أسامحه. لقد تسبب الخلطي في كثير من الأذى للعديد من الأبرياء والمقهورين، فهل ينفع اعتذاره بعد كل التنكيل والتعذيب والترهيب الذي مارسه هو وأمثاله على نساء وأطفال ورجال لا حول لهم ولا قوة؟ 



الجمعة، 8 يناير 2021

النقيب محمد بلقاضي الضابط المسؤول عن إدارة و حراسة تازممارت

 النقيب محمد بلقاضي الضابط المسؤول عن إدارة و حراسة تازممارت

 سمعت الباب الحديدي يصفق بقوة أمام وجهي كي يعم الظلام التام و المطبق من جديد.
و لم يكن هذا الصفق الكبير للباب ضروريا لإغلاقه, إذ لم يكن هناك من داع لهذا الدوي الذي يصم الآذان سوى أن النقيب محمد بلقاضي الضابط المسؤول عن إدارة و حراسة المعتقل,و هو ينحدر من نفس منطقة الجنرال الدليمي بسيدي قاسم, و كان شخصا لئيما و سكيرا و فاسقا ينتشي بتعذيبنا, كان يقف خارج العمارة و يقول للحراس: «أريد أن أسمع الأبواب تغلق عليهم» و كان لهذه العملية وحدها آثارها الكبيرة على إضعاف قدراتنا السمعية.

احمد الوافي



النقيب السابق أحمد الوافي يروي تفاصيل جديدة عن تازمامارت و المحاولتين الانقلابيتين

 النقيب السابق أحمد الوافي يروي تفاصيل جديدة عن تازمامارت و المحاولتين الانقلابيتين

نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 16 - 09 - 2011

هما رحلتان أو قوسان انغلقا علينا ذات صيف و لم ينفتحا إلا بعد مرور ثمانية عشر عاما. قوسان عانينا بينهما أفظع ما يمكن للمرء أن يتصوره. فترة عشنا أثناءها ظروفا تتحدى كل تصور و معاناة تفوق كل خيال.
الرحلة الأولى قادتنا إلى معتقل تازمامارت الرهيب في ليلة صيفية قائظة هي ليلة سابع غشت 1973, و نحن شباب في كامل عنفواننا و قوتنا.تم اقتيادنا خلالها من السجن المركزي بالقنيطرة, الذي كنا ضيوفه بعد أن تمت محاكمتنا و صدرت ضدنا عقوبات سجنية متفاوتة (أما الذين حكموا بالإعدام فقد نفذ في حقهم يوم 13 يناير 1973 في حقل الرماية العسكري بمهدية و لم يعودوا بيننا) بسبب تورط بعضنا في إحدى المحاولتين الانقلابيتين ضد النظام الملكي للحسن الثاني.
أما الرحلة الثانية فقد تمت في 15 سبتمبر 1991 , وهي التي أعادتنا إلى دنيا البشر قادمين ,كما الأشباح, من معتقل تازمامارت و نحن أشلاء بشرية تاركين خلفنا سنوات شبابنا و جثامين ثلاثين من رفاقنا الشهداء الذين سقطوا تباعا في ظروف لا أفظع منها و لا أقسى.
في الحلقات التالية سأشاطر القارئ الكريم جزءا من تفاصيل حياتنا و معاناتنا طيلة هذه الثمانية عشر عاما في معتقل مظلم و ظالم جدير بمعتقلات القرون الغابرة. كما سأتحدث عن الظروف التي قادتنا ? بعضنا بإرادته و البعض الآخر بتضافر ظروف و مقادير لا يد له فيها ? إلى هذا المصير, أي عن المحاولتين الانقلابيتين ل 10 يوليوز 1971 و 16 غشت 1972.
هذه الأحداث التي رويتها لك, عزيزي القارئ, تعود إلى أربعة عقود خلت, قضينا بعدها قرابة العقدين في سجن تازمامارت الرهيب ثم أطلق سراحنا في 15 سبتمبر 1991 ليضعونا في ثكنة أهرمومو التي تحولت بالمناسبة إلى مستشفى متعدد الاختصاصات لاستقبالنا ,حيث قدمت لنا تغذية غنية و متنوعة و مكملات من الفيتامينات لتعويض سنوات الحرمان والتجويع التي تعرضنا لها طيلة ثمانية عشر عاما و بالأخص لاستعادة شكل آدمي مقبول في أعين عائلاتنا و في أعين الآخرين.
لكن هل خرجنا في شكل مقبول؟ بدنيا يمكن القول أنه باستثناء الشحوب الشفاف الذي كان يغلفنا و الأمراض غير المرئية الساكنة في أبداننا كنا مقبولين إلى حد ما, لكن الأصعب هو الندوب الباطنية العميقة و المتجذرة التي أثرت على نفسياتنا و ظهرت في سلوكياتنا.
فالعزلة الطويلة داخل سجن تازمامارت أنستنا بعض المواضعات الاجتماعية, إضافة إلى الخجل و الحذر و الخوف من الآخر الذي أصبح يطبع تصرفات معظمنا,جعل من اندماجنا داخل المجتمع من جديد شبه مستحيل حتى بالنسبة للذين تحلوا بالشجاعة و استأنفوا العمل أو الدراسة.
قبل أن يتم الإفراج عني جاءني العقيد فضول - دائما هو- لكي يبلغني بالنبأ السعيد و لكي يبشرني بأنه سيتم تعويضنا عن سنوات الاعتقال في تازمامارت و سنكون سعداء جدا, قائلا أنه سيتم الاتصال بنا بعد حوالي شهر.
و حين جيء بنا, أنا و غلول, إلى دائرة القنيطرة للقاء الأول مع عائلاتنا, انفرد بنا القائد العلمي لكي ينصحنا بالتكتم و الابتعاد عن الأحزاب السياسية واعدا إيانا بدوره بإيجاد شغل لنا و سكن ملائم داخل أجل شهر, و هو ما أثلج صدرنا و جعلنا نعتقد أن سنوات العذاب قد ولت.
و انتظرنا عدة شهور لم تتحرك خلالها أي من الجهات الرسمية التي وعدت بإدماجنا و تعويضنا عن كافة الأضرار التي لحقتنا نحن و عائلاتنا طيلة سنوات الاعتقال بتازمامارت. قررت أنا و غلول, أن نتوجه إلى عامل القنيطرة لكي نستقصي عن وضعنا و عن مسار الوعود التي تلقيناها, و استقبلنا العامل بشكل جيد, وبعد أن أنصت لنا باهتمام, أكد لنا أننا لا زلنا في السلك العسكري و لهذا فإن الجيش الذي ننتمي له هو من ينبغي أن يحل مشاكلنا و يتحمل مسؤولية تعويضنا.
و بعد أسبوع توجهت صحبة غلول,رفيقي في محنة تازمامارت, إلى قيادة الأركان بالرباط ساعين لمقابلة الجنرال المسؤول, و بعد انتظار طويل في ردهة مكتبه كانت الاتصالات الهاتفية المحمومة تتوالى بين المكاتب من جهة و بين قيادة الأركان و القصر الملكي من جهة ثانية, جاءنا نقيب شاب كان تلميذا عند غلول لكي يبلغنا أن لديه أوامر صريحة باقتيادنا إلى خارج مقر قيادة الأركان و حين بلغنا الباب طلب منا بكل احترام ألا نعود أبدا إلى مقر القيادة ..لأننا لم نعد ننتمي إلى سلك الجندية و لم نعد عسكريين.
كانت هذه حالنا نحن, و هي مماثلة لحالات الكثير من رفاق تازمامارت الذين أفرج عنهم مثلنا دون أن يتلقوا أي سند أو دعم مادي اللهم مساندة و دعم عائلاتهم. و قد كنا نحن محظوظين لأننا وجدنا عائلات متماسكة و حاضنة و هو الأمر الذي لم يجده عدد من رفاقنا الآخرين, و تلك قصة أخرى.
ظللنا على هذه الحال البئيسة, كل يقاوم بمعزل عن الآخر دون طائل و لا نتيجة, إلى أن فوجئنا في أوائل سنة 1994 ,قبل ثلاثة أسابيع من انعقاد مؤتمر «الغات» الاقتصادي العالمي بمدينة مراكش, باستدعاء مستعجل إلى مقر وزارة حقوق الإنسان بالرباط.
و بمقر الوزارة استقبلنا الوزير عمر عزيمان فرادى حيث أبلغنا جميعا (و هو ما تحققنا منه بعد لقائنا فيما بعد) بالتالي :» إن جلالة الملك يتأسف لما وقع لكم, و هو أمر لم يكن يعلم به, و أنه أعطى تعليماته الصارمة كي تتم تسوية ملفكم تسوية نهائية, في مجالات السكن و التطبيب و التقاعد, إضافة إلى منحة ملكية سيتم تحديد مبلغها و ستعجبكم» كل ذلك - أضاف الوزير- خلال شهرين من الآن موضحا أننا سنتلقى ابتداء من فبراير 1994 مبلغا شهريا بقيمة خمسة آلاف درهم صادرا من الخدمات الاجتماعية التابعة للقوات المسلحة الملكية, و هو مبلغ لا يكتسي أي طابع رسمي بل هو موجه للاستجابة لحاجياتنا المستعجلة.
و بعد مرور عدة أشهر دون تحقيق أي من الوعود التي تلقيناها- باستثناء الخمسة آلاف درهم - طرح على وزير حقوق الإنسان عمر عزيمان, في أحد الاستجوابات الصحفية, سؤال حول هذا الموضوع, تراجع نافيا أن يكون قدم أي وعد بهذا الخصوص. و استأنفنا رحلتنا العصية و طرق الأبواب الموصدة إلى أن وصلنا إلى وزارة حقوق الإنسان بعد أن غادرها عمر عزيمان, وكانت الطامة الكبرى.
فخلال لقاء لنا مع الوزير الجديد محمد زيان, صرح لنا هذا الأخير قائلا و نحن في مكتبه : «ليس لكم الحق في أي تعويض, و اعتبروا أنفسكم سعداء لأنكم ما زلتم على قيد الحياة...» مما أثار حفيظتنا جميعا و دفع المرحوم محمد الرايس إلى أن ينقض على الوزير المتبجح في مقعده و يشد بخناقه صارخا فيه أمامنا : «و الله حتى نقتل إماك...» و لولا تدخل مدير ديوان الوزير زيان لإنقاذه لحدثت مصيبة في مكتب الوزير.
وبالموازاة مع ذلك لا بد من التوقف للإشادة ببعض الرجال و النساء و الجمعيات و المنظمات سواء المغربية أو الأجنبية التي وقفت إلى جانبنا منذ خروجنا من تازمامارت و ساندتنا ماديا ومعنويا.
وقد لا تسعفني الذاكرة لذكر الجميع لكني أذكر على وجه الخصوص «مؤسسة يوهانس فير للصحة و حقوق الإنسان الهولندية» التي كانت سباقة في إرسال بعثة طبية لنا لتحديد الآثار النفسية و البدنية لثمانية عشر عاما من الاعتقال
و كانت أهم خطوة تم اجتيازها على الصعيد الوطني هو قيام «المنظمة المغربية لحقوق الإنسان» بإطلاق جلسات علاج جماعية, برئاسة الدكتور عبد الله زيوزيو لفائدة جميع ضحايا تازمامارت و هو ما أفادنا كثيرا و شجعنا على تنظيم و رص صفوفنا.
كما وقفت «الجمعية المغربية لحقوق الإنسان» إلى جانبنا بشكل كبير و شجعتنا أيضا على إنشاء إطار يضمنا و نتناقش داخله حول مشاكلنا. و هكذا أسسنا «جمعية قدماء معتقلي تازمامارت» في خامس يناير 2003 و أصبحنا نلتقي مع بعضنا البعض للدفاع عن حقوقنا و لتنظيم أنفسنا وتوحيد مطالبنا.
كما كنا نتوصل برسائل دعم و تضامن من أجانب وهي الرسائل التي رفعت معنوياتنا بشكل كبير خصوصا في تلك الفترة الأولى التي كنا خلالها فاقدي البوصلة
وإن أنس لا أنسى المقاوم بنسعيد أيت إيدر ذلك الرجل الشجاع الذي كان أول من طرح قضيتنا أمام البرلمان المغربي و كذلك السيدة دور السرفاتي التي أسست جمعية «عدالة تازمامارت» و السيد محمد امجيد الذي ساندنا في صمت نبيل. و ليعذرني الكثيرون الذين ساندونا و لم أذكرهم...
و في عام 2001 تلقينا تعويضا عن الضرر والأذى الذي لحقنا أثناء اعتقالنا في تازمامارت , وتوقفت فورا تلك المنحة الشهرية (5000درهم) التي كنا نستلمها منذ 1994 وقد تراوح التعويض ما بين مليونين و 400 ألف درهم (240 مليون سنتيم) و3 ملايين و نصف المليون درهم (350 مليون سنتيم) ضيعها أغلبنا نتيجة انعدام الخبرة أو نتيجة النصب الذي تعرض له
كنا مضطرين للقبول لأنه لم يكن لدينا أي مدخول آنذاك و لأن ما تلقيناه هو تعويض عن التعذيب الذي لاقيناه في تازمامارت أما الباقي فلا زلنا نطالب به مثل التعويض عن الاختطاف والاحتجاز التعسفي و التعويض عن سنوات السجن الزائدة و التعويض عن فقدان الحرية في ظروف اعتقال لا إنساني و التعويض عن الأضرار النفسية و الصحية التي لحقتنا و لحقت أسرنا و التعويض عن الأضرار المادية و المعنوية الناتجة عن الخوف و فقدان الأمان و التعويض عن مقومات الحياة العادية (الدراسة, الرياضة...) و التعويض عن الحرمان من الاستفادة من الخدمات الصحية و الاجتماعية و السكن و التقاعد من الجيش (14 سنة في القوات المسلحة الجوية بالنسبة لي)
هذا التعويض بطبيعة الحال لا يرقى إلى التعويض الذي تلقاه الإخوة بوريكات عن سنوات الاعتقال في تازمامارت إذ قدمت الدولة المغربية لكل واحد منهم سنة 1993 عشرة ملايين فرنك فرنسي (أكثر من مليار سنتيم لكل واحد) وضعت في حسابهم بأحد البنوك السويسرية بعد مفاوضات بين محاميهم و ممثلي الدولة المغربية , و ذلك مقابل الفترة التي قضوها في تازمامارت . كما أن هذا التعويض لا يحترم المعايير الدولية لتعويض المساجين في حالتنا.
لهذا فإني أتوجه,باسم رفاقي الناجين من معتقل تازمامارت, إلى  الملك محمد السادس,  بأن يصدر تعليماته كي يتم الاهتمام بحالتنا و حل مشاكلنا : لقد خرجنا من تازمامارت 28 شخصا توفي منا لحد الآن خمسة, و أغلبنا قد هرم و ضيع زهرة شبابه في غياهب تازمامارت الرهيب. خرجنا شيوخا نخرتنا الأمراض لا نأمل إلا أن نقضي ما تبقى من حياتنا في ظروف عيش كريمة متمتعين بالتغطية الصحية و بتقاعد كريم يقينا ذل السؤال و بتعويض ينسينا بعض العذاب الذي عانينا منه , و أنا أتوجه إلى  الملك من خلال هذا المنبر و باسم كافة رفاقي أن يتدخل  كي ينهي معاناتنا لكي تطوى صفحة تازمامارت طيا نهائيا.
انتهى


النقيب السابق أحمد الوافي يروي تفاصيل جديدة عن تازمامارت و المحاولتين الانقلابيتين .. اعتقالي في مكناس

 

النقيب السابق أحمد الوافي يروي تفاصيل جديدة عن تازمامارت و المحاولتين الانقلابيتين .. مسدس في الصحيفة

 النقيب السابق أحمد الوافي يروي تفاصيل جديدة عن تازمامارت و المحاولتين الانقلابيتين .. مسدس في الصحيفة

نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 14 - 09 - 2011

هما رحلتان أو قوسان انغلقا علينا ذات صيف و لم ينفتحا إلا بعد مرور ثمانية عشر عاما. قوسان عانينا بينهما أفظع ما يمكن للمرء أن يتصوره. فترة عشنا أثناءها ظروفا تتحدى كل تصور و معاناة تفوق كل خيال.
الرحلة الأولى قادتنا إلى معتقل تازمامارت الرهيب في ليلة صيفية قائظة هي ليلة سابع غشت 1973, و نحن شباب في كامل عنفواننا و قوتنا.تم اقتيادنا خلالها من السجن المركزي بالقنيطرة, الذي كنا ضيوفه بعد أن تمت محاكمتنا و صدرت ضدنا عقوبات سجنية متفاوتة (أما الذين حكموا بالإعدام فقد نفذ في حقهم يوم 13 يناير 1973 في حقل الرماية العسكري بمهدية و لم يعودوا بيننا) بسبب تورط بعضنا في إحدى المحاولتين الانقلابيتين ضد النظام الملكي للحسن الثاني.
أما الرحلة الثانية فقد تمت في 15 سبتمبر 1991 , وهي التي أعادتنا إلى دنيا البشر قادمين ,كما الأشباح, من معتقل تازمامارت و نحن أشلاء بشرية تاركين خلفنا سنوات شبابنا و جثامين ثلاثين من رفاقنا الشهداء الذين سقطوا تباعا في ظروف لا أفظع منها و لا أقسى.
في الحلقات التالية سأشاطر القارئ الكريم جزءا من تفاصيل حياتنا و معاناتنا طيلة هذه الثمانية عشر عاما في معتقل مظلم و ظالم جدير بمعتقلات القرون الغابرة. كما سأتحدث عن الظروف التي قادتنا ? بعضنا بإرادته و البعض الآخر بتضافر ظروف و مقادير لا يد له فيها ? إلى هذا المصير, أي عن المحاولتين الانقلابيتين ل 10 يوليوز 1971 و 16 غشت 1972.
بعد فترة بدأنا نسمع اتصالات الربابنة يعلنون أنهم لم يروا بعد الطائرة الملكية و فجأة سمعنا:
- تاليهو, تاليهو...
كان صوت الليوتنان دحو الذي اكتشف البوينغ الملكي في سماء تطوان
ثم سمعنا صوت قائد البوينغ الكومندان القباج يسأل:
- مقاتلات «إف 5» عرفوا بأنفسكم
و لما لم يحصل على أي جواب قال مجددا:
- - ابتعدوا, ابتعدوا إنكم تطيرون قريبا جدا من طائرتنا... إن جلالة الملك لم يطلب أي خفر ...أكرر, ابتعدوا ابتعدوا
ثم بعد هنيهة:
- ماذا يفعلون, إنهم يستعدون لإطلاق النار ...إنهم يطلقون النار علينا
أمام هذا الحدث أصيب المراقبان الجويان و النقيب العربي و أنا نفسي بالهلع, و توجهت أنظارنا جميعا نحو الليوتنان كولونيل أمقران الذي كان متوترا يفرك كفيه بعضهما ببعض
- لقد أصبنا...
و سمعنا صوتا في الخلفية يقول:
- قل لهم أن يوقفوا النار, قل لهم أن الملك أصيب و أنت أيضا
أجاب القباج:
- لا, لا أكاذيب, إنهم يسمعوننا...
و في برج المراقبة, كنا نحبس أنفاسنا و نحن نتابع صوت قائد الطائرة الملكية الذي كان ينقل لنا التطورات ثانية بثانية.
- أصيب محرك ثان, أوقف المحرك و شغل نظام إطفاء النار...لم يتبق لنا سوى محرك واحد...آمل ألا تكون لهم ذخيرة...
و في اللحظة الموالية:
- إننا نستعد للنزول الاضطراري...»مايدي, مايدي» إننا نفقد العلو
التفت الأدجودان شاف لامين إلى الليوتنان كولونيل أمقران قائلا:
- سيدي العقيد,ينبغي إعلان تدابير الانقاذ الاستعجالية لإنقاذ الطائرة الملكية. ينبغي إبلاغ رجال المطافئ فورا و الاتصال بقاعدة سلا..
صرخ أمقران الغاضب في وجهه:
- أصمت, ليس هذا شغلك
و أمام إلحاح المراقبين من أجل التحرك, شرع يصرخ مثل مجنون:
- أسكتوا.لا أريد سماع شيء. أصمتوا, أنا قائدكم هل تسمعون؟ ليس لكم ما تقولون لي.
ركن المراقبان إلى الصمت بينما نظر إلى النقيب العربي و في نظرته قرأت نفس ما أشعر به: «لقد خدعنا...خدعنا على طول الخط»
ثم كسر صوت الليوتنان زياد الصمت السائد حين سمعناه يقول:
- فشل الاقتراب من البوينغ.طائرة الكومندان (كويرة) خارج السيطرة, نجاح الخروج بالمظلة...منطقه سوق الأربعاء..
حينها نط الليوتنان كولونيل أمقران على زر الراديو قاطعا القناة الخارجية فلم نعد نسمع شيئا بينما ظل هو محافظا على الاتصال.
لم يعد لنا شك بأن الطائرة الملكية قد سقطت. و بدت الدقائق ثقيلة بطيئة المرور.
و فجأة صاح الأدجودان شاف لامين و هو يشير بأصبعه إلى نقطة في السماء:
-أنظروا
نظرنا في اتجاه أصبعه و رأينا الطائرة الملكية تحلق على ارتفاع منخفض, و وراءها خيط كثيف من الدخان الأسود. كانت قريبة منا لدرجة أننا اعتقدنا أنها ستقوم بهبوط اضطراري في قاعدتنا.
و حيث أننا لم نعد نسمع الكومندان القباج فلم نكن نعرف نواياه. كان أمقران وحده يتابع ما يجري من خلال الراديو بيد أننا لم نر أي رد فعل على وجهه.
و مثل طائر عملاق جريح مرت البوينغ الملكية أمامنا و رأيناها تواصل تحليقها في اتجاه سلا ثم اختفت عن أنظارنا.
حينها اتصل الليوتنان كولونيل أمقران بمصلحة العمليات و أمر السرجان شاف موهاج بالإقلاع للقيام بمهمة استكشافية فوق مطار الرباط سلا, طالبا منه التحليق فوق المدرجات و إعطائه معلومات عن الطائرة الملكية.
في هذا الوقت عاد طيارو عملية «براق» إلى القاعدة و طلبوا الإذن بالهبوط. و واحدة وراء الأخرى نزلت الطائرات لا تنقص سوى طائرة كويرة.
بدا أمقران و قد تجاوزته الأحداث و طفق يرتجل ردود الفعل دون تخطيط, ثم أخذ العلبة التي جاءه بها سائقه قبل قليل, فأزال ورق الصحيفة و رأينا مسدسا بغمده.أخرج السلاح و احتفظ به في يده.
كنت في حالة توتر قصوى, مع فكرة واحدة تسود ذهني هي الترصد للحظة التي أتمكن فيها من التسلل بعيدا عن هذا المكان دون أن أفقد حياتي لأني لم أعد أشك في أن رئيسنا لن يتردد في إطلاق النار على أي واحد منا إذا ما عصى أوامره.
سمعنا الليوتنان كولونيل أمقران يصدر أوامره إلى كل من بوخالف و زياد لإعادة تسليح طائرتيهما و القيام بمهمة قصف ثانية. و فجأة رأيناه ينزع قبعة الاتصال بغضب عن رأسه و يرميها على الطاولة. كان لا يزال يحمل مسدسه مما دفعني إلى الاعتقاد بأنه قد يقدم على الانتحار, لكنه التفت إلينا و قال بصوت قوي:
- مهما حصل الآن, لا تفعلوا أي شيء, مفهوم؟ و أنت أيضا يا الوافي لا تفعل شيئا.نحن معنيون جميعا. كل شئ سيتغير الآن...لقد أخفقنا في إصابة الهدف لكن لا تقلقوا, فالجنرال أوفقير سينهي العمل في مطار الرباط سلا.اليوم يوم كبير لنا جميعا و للبلاد كافة. كل ما قمنا به قمنا به عن قناعة و وعي, تحيا الجمهورية.
التفت إلى النقيب العربي و قال له:
- العربي, لا تأتمر الآن إلا بأوامر الجنرال أوفقير أو أوامر الجنرال الصفريوي, هل تسمع؟
ثم توجه نحوي أنا و قال:
- أما أنت يا الوافي, فلا تحاول التسلل إنك محروس و مراقب...
و قبل أن يغادرنا, قال ثلاث مرات «تحيا الجمهورية» مما تركنا فاغري أفواهنا ننظر باستغراب لبعضنا البعض لا ندري ما العمل.
اعتقالي في مكناس
نزلت فورا و بسرعة من برج المراقبة. و عند وصولي أرضية المطار لم أجد الليوتنان كولونيل و سمعت هدير طائرة هيليكوبتير ثم رأيتها تتجه جنوبا, و علمت من أحد الحراس أن أمقران هو من يقود الهيليكوبتير. حينها قررت مغادرة القاعدة في أسرع وقت.
رأيت أن شريط حراسة قد طوق مختلف عمارات القاعدة و لم أعرف من أمر بذلك. أسرعت نحو سيارتي و حين ركبت وجدت بالمقعد الأيمن الأمامي أحد حراس الاتصال و فوق ركبتيه جهاز اتصال.
-من سمح لك بفتح سيارتي يا هذا؟
-إنه الليوتنان الطويل و أمرني بانتظارك
حينها طلبت منه فتح الجهاز الذي أمامه للاتصال ببرج المراقبة
أجابني النقيب العربي قائلا أن الجنرال أوفقير اتصل و طلب أسماء الضباط المتواجدين ببرج المراقبة
سألته بقلق: هل أعطيته إسمي؟
أجابني بالإيجاب مضيفا: على كل حال فأنت من أجبته قبل قليل و هذا أمر لن ينساه ...
قطعت الاتصال و طلبت من الحارس أن يذهب هو و جهازه.خرجت من سيارتي و أغلقتها بالمفتاح آملا في الحصول على أكبر قدر من المعلومات الممكنة كي أعطيها فيما بعد لهيأة الأركان.
في تلك اللحظة وصل الأدجودان شاف الجيلالي, رئيس المدرج, لتحيتي فسألته عما إذا كانت طائرات الاستكشاف التي أقلعت مسلحة أم لا؟
فأجابني بأن الطائرات كانت فعلا مسلحة و أن طائرة زياد قد عادت بذخيرتها بينما طائرة الليوتنان زياد قد عادت فارغة.
و رأيت زياد و بوخالف اللذين نزلا من طائرتيهما و هما يتجهان نحوي.كانا يختصمان و سمعت الليوتنان بوخالف يقول غاضبا لليوتنان زياد:
-كان عليك أن تخبرني. لماذا لم تفعل؟ليس من حقك أن تتركني غافلا؟ أنظر الآن في أي وضع خطير وضعتني.
أمسك رأسه بيديه و بدا على شفير الإجهاش بالبكاء.
سألني الليوتنان زياد عن مكان أمقران فقلت له أني علمت أنه طار بالهيليكوبتير
- آه اللئيم,لقد هرب بكل تأكيد. إذن فسيرى من هو زياد. سأقوم بالأرض المحروقة...ثم أدار ظهره لي و اتجه لينضم إلى بوخالف.
و بدوره جاء الليوتنان الطويل سائلا:
- سيدي النقيب,هل تعرف ما يجري؟
أجبته بأني نزلت لتوي من برج المراقبة و أن أمقران قد أخبرنا بوقوع انقلاب عسكري يقوده الجنرال أوفقير, و أصفت أنه قال أن الجيش كله معني بالانقلاب. فأكد لي أن لا علم له لا هو و لا رجاله بهذا الأمر.
ركبت سيارتي و خرجت من منطقة العمليات.و لدى خروجي صادفت أحد الحراس الذي عمل تحت إمرتي فقلت له أن يسلمني مسدسه الرشاش «بيريتا» فنفذ الأمر حالا و ما أن لمست السلاح حتى استعدت طمأنينتي. سلحت الرشاش و وضعته إلى جانبي على مقعد السيارة.
بدت المنطقة السكنية هادئة , فدخلت منزلي و في الوقت الذي كنت أنوي فيه الاختلاء بزوجتي و إبلاغها بما وقع رن جرس الهاتف.كانت المكالمة من أخيها أحد حراس الأمير مولاي عبد الله. لقد علم بالأمر و تلفن ليعرف ما إذا كنت متورطا فيه. نفيت له علمي أو تورطي فيه و أن كل شيء قد جرى دون علم مسبق مني, فحذرني مبلغا إياي بانتظار أن يتم اعتقالي في الساعات القريبة, ثم أغلق الهاتف.
شعرت و كأني تلقيت ضربة قاصمة على رأسي. لقد أكد تخوفاتي. فلأذهب إذن إلى مكناس.
لحقت بزوجتي في المطبخ. و من خلال نظرتها اليائسة, عرفت أنها علمت أيضا . حاولت جاهدا أن أقنعها بأن لا يد لي فيما جرى.حاولت أن تثنيني عن الذهاب إلى مكناس.
كان ابتعادي عن أهلي في تلك الظروف يمزقني.قبلت إبناي بسرعة و ودعت حماتي و ضممت إلي زوجتي محاولا إقناعها للمرة الأخيرة و طمأنتها...
لدى خروجي من القاعدة كانت الحراسة مشددة, قلت لهم أني أريد الالتحاق بالقاعدة الجوية لمكناس, فسمحوا لي بالمرور.
و أنا في الطريق إلى مكناس كانت الأفكار تتزاحم في رأسي و ذكريات المحاولة الانقلابية للصخيرات و الأحكام التي تلتها من طرف المحكمة العسكرية. و فكرت في لحظة من اللحظات في اجتياز الحدود و اللجوء للجزائر لكني اعتبرت أن هذا التصرف سيعد تأكيدا لتورطي في المحاولة الانقلابية الأخيرة و فكرت فيما يمكن أن يعانيه أفراد أسرتي من بعدي.
عند وصولي على الثامنة و نصف مساء إلى قاعدة مكناس, توجهت مباشرة إلى مكتب الكومندان وهبي, فوجدته صحبة النقيب بنسعيد. حدثتهما عن أحداث النهار و شعرت بأنهما تعاطفا معي فحاولا طمأنتي و طلبا مني تحرير تقرير عما جرى.
و بقيت لبضع ساعات قبل أن ينزل أمر من قيادة الأركان العامة بوضعي رهن الاعتقال الاحتياطي, فنقلوني آنذاك, تحت الحراسة, إلى غرفة من غرف القاعدة. و في انتظار وجبة العشاء شرعت في كتابة تقريري.
و على الساعة العاشرة إلا ربع دخل علي دركيان و طلبا مني الاستعداد لكي أصطحبهما إلى الرباط.أعطيتهما التقرير الذي حررته ثم وضعا الأصفاد في يدي و العصابة على عيني بعد أن اعتذرا عن ذلك.
هكذا تحول مصيري من مسار واعد و وردي إلى مسار مختلف تماما.
عند وصولنا إلى الرباط تم اقتيادي إلى سجن الدرك الملكي.كان هناك طيارون آخرون تم اعتقالهم أيضا.أعادوا تقييد يدي و تعصيب عيني و أدخلت زنزانة مشتركة في انتظار الاستنطاق.
كان التوتر سائدا داخل الزنزانة لكننا لم نتعرض لأي تعذيب أو سوء معاملة خلال الاستنطاقات التي بدأت في الغد و التي سجلت في محاضر.
في اليوم الموالي,أي 17 غشت 1972 ,و بموافقة من رئيسه جاءني أحد رجال الدرك بجريدة يومية علمت من خلالها أن الليوتنان كولونيل أمقران و رفاقه قد لجأوا إلى جبل طارق و أنه سيجري ترحيلهم إلى المغرب قريبا جدا.
في نهاية الزوال,قدم دركي عضو في لجنة التحقيق , و هو واحد من معارفي بالدار البيضاء, خصيصا ليزف لي نبأ سعيدا مفاده أن أمقران قد برأني تماما, و أنه ستتم تبرئتي لا محالة بعد انتهاء التحقيقات و مثولي أمام المحكمة.
خلال الليل و حوالي الساعة الثالثة فجرا,تمكنت,بفضل تعاطف الدركي المكلف بالحراسة, من أن أتلفن إلى زوجتي من مكتب قائد اللواء.حاولت جاهدا طمأنتها ثم أعطيتها بعض التعليمات لمواجهة الوضع المالي خلال الأسابيع القادمة.
في الغد 18 غشت تم إرسالنا إلى مركز المظليين حيث أقام الدركيون مقرا للتحقيق التفصيلي. كنا,ما بين ضباط و ضباط صف, حوالي 220 معتقلا. في زنزانة المركز كان معي ضباط الصف الذين رافقوا أمقران على متن الطائرة العمودية إلى جبل طارق. و قد رووا لي ما جرى بعد أن أمرهم أمقران بالإقلاع نحو مطار الرباط حيث حلقوا فوقه, و لما تأكدوا عيانا من هبوط الطائرة الملكية, أمرهم بالتوجه شمالا. وصلوا إلى جبل طارق في ظروف مناخية مضطربة فأخذ الليوتنان كولونيل أمقران مقاليد القيادة بنفسه و تمكن من الهبوط حيث استقبلوا من طرف ضابط بريطاني.طلب أمقران اللجوء السياسي بينما عبرنا نحن عن رغبتنا في العودة للمغرب. و بعد أن تم إيداعنا ,تحت الحراسة ?يقول صاحبي ? في أحد فنادق المدينة في تلك الليلة ,قاموا بتقييدنا وتعصيب أعيننا و إركابنا في طائرة خاصة نقلتنا إلى المغرب.
و بعد ذلك تلت مرحلة الاستنطاقات المكثفة و انتظار المحاكمة التي جرت في 17 أكتوبر 1972 .و في 7 نوفمبر صدرت الأحكام.
كان عدد المتهمين الماثلين أمام المحكمة العسكرية 220 ضابطا و ضابط صف. فحكم على أمقران و الطيارين السبعة الذين قصفوا الطائرة الملكية و المطار و القصر بالإعدام و حكم بنفس العقوبة على كل من النقيب العربي الذي كان سينتقل إلى مكناس, و على الليوتنان ليزيد مسؤول الأمن الذي فر مع أمقران إلى جبل طارق. و قد تم تنفيذ أحكام الإعدام هاته في 13 يناير 1973 عشية عيد الأضحى و يوم الوقوف بعرفة مما أثار موجة من الاستنكار في البلاد حينها.
كما تم الحكم بعشرين سنة سجنا على ثلاثة ضباط آخرين , وبأحكام تراوحت بين عشر و ثلاث سنوات على 32 من المتهمين , و برئت ساحة 117 ضابط صف معظمهم من ميكانيكيي الطائرات الذين تحتاج إليهم قيادة الأركان لصيانة طائرات ال»إف 5» الجديدة.
أما بالنسبة لي فقد طالب المدعي العام بسجني إلى الأبد لكن المحكمة قضت بمعاقبتي بعشر سنوات سجنا. شعرت بانهيار معنوي كبير خاصة أن الحكم ترافق مع خبر فاجع هو وفاة والدي .
بعد صدور الأحكام تم إيداعنا السجن المركزي بالقنيطرة, حيث وضعونا في زنازين المحكوم عليهم بالإعدام, لا شك لتكسير معنوياتنا. و قد كان الليوتنان فضول ? الذي لن أراه إلا بعد عشرين عاما تمت ترقيته خلالها إلى رتبة عقيد ? حاضرا بشكل دائم للقيام بمهمة تكسير المعنويات, و كان يقوم بها بشكل لافت استحق عليه الشكر من طرف رؤسائه.



النقيب السابق أحمد الوافي يروي تفاصيل جديدة عن تازمامارت و المحاولتين الانقلابيتين .. اعتقالي في مكناس

نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 15 - 09 - 2011

هما رحلتان أو قوسان انغلقا علينا ذات صيف و لم ينفتحا إلا بعد مرور ثمانية عشر عاما. قوسان عانينا بينهما أفظع ما يمكن للمرء أن يتصوره. فترة عشنا أثناءها ظروفا تتحدى كل تصور و معاناة تفوق كل خيال.
الرحلة الأولى قادتنا إلى معتقل تازمامارت الرهيب في ليلة صيفية قائظة هي ليلة سابع غشت 1973, و نحن شباب في كامل عنفواننا و قوتنا.تم اقتيادنا خلالها من السجن المركزي بالقنيطرة, الذي كنا ضيوفه بعد أن تمت محاكمتنا و صدرت ضدنا عقوبات سجنية متفاوتة (أما الذين حكموا بالإعدام فقد نفذ في حقهم يوم 13 يناير 1973 في حقل الرماية العسكري بمهدية و لم يعودوا بيننا) بسبب تورط بعضنا في إحدى المحاولتين الانقلابيتين ضد النظام الملكي للحسن الثاني.
أما الرحلة الثانية فقد تمت في 15 سبتمبر 1991 , وهي التي أعادتنا إلى دنيا البشر قادمين ,كما الأشباح, من معتقل تازمامارت و نحن أشلاء بشرية تاركين خلفنا سنوات شبابنا و جثامين ثلاثين من رفاقنا الشهداء الذين سقطوا تباعا في ظروف لا أفظع منها و لا أقسى.
في الحلقات التالية سأشاطر القارئ الكريم جزءا من تفاصيل حياتنا و معاناتنا طيلة هذه الثمانية عشر عاما في معتقل مظلم و ظالم جدير بمعتقلات القرون الغابرة. كما سأتحدث عن الظروف التي قادتنا ? بعضنا بإرادته و البعض الآخر بتضافر ظروف و مقادير لا يد له فيها ? إلى هذا المصير, أي عن المحاولتين الانقلابيتين ل 10 يوليوز 1971 و 16 غشت 1972.
نزلت فورا و بسرعة من برج المراقبة. و عند وصولي أرضية المطار لم أجد الليوتنان كولونيل و سمعت هدير طائرة هيليكوبتير ثم رأيتها تتجه جنوبا, و علمت من أحد الحراس أن أمقران هو من يقود الهيليكوبتير. حينها قررت مغادرة القاعدة في أسرع وقت.
رأيت أن شريط حراسة قد طوق مختلف عمارات القاعدة و لم أعرف من أمر بذلك. أسرعت نحو سيارتي و حين ركبت وجدت بالمقعد الأيمن الأمامي أحد حراس الاتصال و فوق ركبتيه جهاز اتصال.
-من سمح لك بفتح سيارتي يا هذا؟
-إنه الليوتنان الطويل و أمرني بانتظارك
حينها طلبت منه فتح الجهاز الذي أمامه للاتصال ببرج المراقبة
أجابني النقيب العربي قائلا أن الجنرال أوفقير اتصل و طلب أسماء الضباط المتواجدين ببرج المراقبة
سألته بقلق: هل أعطيته إسمي؟
أجابني بالإيجاب مضيفا: على كل حال فأنت من أجبته قبل قليل و هذا أمر لن ينساه ...
قطعت الاتصال و طلبت من الحارس أن يذهب هو و جهازه.خرجت من سيارتي و أغلقتها بالمفتاح آملا في الحصول على أكبر قدر من المعلومات الممكنة كي أعطيها فيما بعد لهيأة الأركان.
في تلك اللحظة وصل الأدجودان شاف الجيلالي, رئيس المدرج, لتحيتي فسألته عما إذا كانت طائرات الاستكشاف التي أقلعت مسلحة أم لا؟
فأجابني بأن الطائرات كانت فعلا مسلحة و أن طائرة زياد قد عادت بذخيرتها بينما طائرة الليوتنان زياد قد عادت فارغة.
و رأيت زياد و بوخالف اللذين نزلا من طائرتيهما و هما يتجهان نحوي.كانا يختصمان و سمعت الليوتنان بوخالف يقول غاضبا لليوتنان زياد:
-كان عليك أن تخبرني. لماذا لم تفعل؟ليس من حقك أن تتركني غافلا؟ أنظر الآن في أي وضع خطير وضعتني.
أمسك رأسه بيديه و بدا على شفير الإجهاش بالبكاء.
سألني الليوتنان زياد عن مكان أمقران فقلت له أني علمت أنه طار بالهيليكوبتير
- آه اللئيم,لقد هرب بكل تأكيد. إذن فسيرى من هو زياد. سأقوم بالأرض المحروقة...ثم أدار ظهره لي و اتجه لينضم إلى بوخالف.
و بدوره جاء الليوتنان الطويل سائلا:
- سيدي النقيب,هل تعرف ما يجري؟
أجبته بأني نزلت لتوي من برج المراقبة و أن أمقران قد أخبرنا بوقوع انقلاب عسكري يقوده الجنرال أوفقير, و أصفت أنه قال أن الجيش كله معني بالانقلاب. فأكد لي أن لا علم له لا هو و لا رجاله بهذا الأمر.
ركبت سيارتي و خرجت من منطقة العمليات.و لدى خروجي صادفت أحد الحراس الذي عمل تحت إمرتي فقلت له أن يسلمني مسدسه الرشاش «بيريتا» فنفذ الأمر حالا و ما أن لمست السلاح حتى استعدت طمأنينتي. سلحت الرشاش و وضعته إلى جانبي على مقعد السيارة.
بدت المنطقة السكنية هادئة , فدخلت منزلي و في الوقت الذي كنت أنوي فيه الاختلاء بزوجتي و إبلاغها بما وقع رن جرس الهاتف.كانت المكالمة من أخيها أحد حراس الأمير مولاي عبد الله. لقد علم بالأمر و تلفن ليعرف ما إذا كنت متورطا فيه. نفيت له علمي أو تورطي فيه و أن كل شيء قد جرى دون علم مسبق مني, فحذرني مبلغا إياي بانتظار أن يتم اعتقالي في الساعات القريبة, ثم أغلق الهاتف.
شعرت و كأني تلقيت ضربة قاصمة على رأسي. لقد أكد تخوفاتي. فلأذهب إذن إلى مكناس.
لحقت بزوجتي في المطبخ. و من خلال نظرتها اليائسة, عرفت أنها علمت أيضا . حاولت جاهدا أن أقنعها بأن لا يد لي فيما جرى.حاولت أن تثنيني عن الذهاب إلى مكناس.
كان ابتعادي عن أهلي في تلك الظروف يمزقني.قبلت إبناي بسرعة و ودعت حماتي و ضممت إلي زوجتي محاولا إقناعها للمرة الأخيرة و طمأنتها...
لدى خروجي من القاعدة كانت الحراسة مشددة, قلت لهم أني أريد الالتحاق بالقاعدة الجوية لمكناس, فسمحوا لي بالمرور.
و أنا في الطريق إلى مكناس كانت الأفكار تتزاحم في رأسي و ذكريات المحاولة الانقلابية للصخيرات و الأحكام التي تلتها من طرف المحكمة العسكرية. و فكرت في لحظة من اللحظات في اجتياز الحدود و اللجوء للجزائر لكني اعتبرت أن هذا التصرف سيعد تأكيدا لتورطي في المحاولة الانقلابية الأخيرة و فكرت فيما يمكن أن يعانيه أفراد أسرتي من بعدي.
عند وصولي على الثامنة و نصف مساء إلى قاعدة مكناس, توجهت مباشرة إلى مكتب الكومندان وهبي, فوجدته صحبة النقيب بنسعيد. حدثتهما عن أحداث النهار و شعرت بأنهما تعاطفا معي فحاولا طمأنتي و طلبا مني تحرير تقرير عما جرى.
وبقيت لبضع ساعات قبل أن ينزل أمر من قيادة الأركان العامة بوضعي رهن الاعتقال الاحتياطي, فنقلوني آنذاك, تحت الحراسة, إلى غرفة من غرف القاعدة. و في انتظار وجبة العشاء شرعت في كتابة تقريري.
وعلى الساعة العاشرة إلا ربع دخل علي دركيان و طلبا مني الاستعداد لكي أصطحبهما إلى الرباط.أعطيتهما التقرير الذي حررته ثم وضعا الأصفاد في يدي و العصابة على عيني بعد أن اعتذرا عن ذلك.
هكذا تحول مصيري من مسار واعد و وردي إلى مسار مختلف تماما.
عند وصولنا إلى الرباط تم اقتيادي إلى سجن الدرك الملكي.كان هناك طيارون آخرون تم اعتقالهم أيضا.أعادوا تقييد يدي و تعصيب عيني و أدخلت زنزانة مشتركة في انتظار الاستنطاق.
كان التوتر سائدا داخل الزنزانة لكننا لم نتعرض لأي تعذيب أو سوء معاملة خلال الاستنطاقات التي بدأت في الغد و التي سجلت في محاضر.
في اليوم الموالي,أي 17 غشت 1972 ,و بموافقة من رئيسه جاءني أحد رجال الدرك بجريدة يومية علمت من خلالها أن الليوتنان كولونيل أمقران و رفاقه قد لجأوا إلى جبل طارق و أنه سيجري ترحيلهم إلى المغرب قريبا جدا.
في نهاية الزوال,قدم دركي عضو في لجنة التحقيق , و هو واحد من معارفي بالدار البيضاء, خصيصا ليزف لي نبأ سعيدا مفاده أن أمقران قد برأني تماما, و أنه ستتم تبرئتي لا محالة بعد انتهاء التحقيقات ومثولي أمام المحكمة.
خلال الليل و حوالي الساعة الثالثة فجرا, تمكنت, بفضل تعاطف الدركي المكلف بالحراسة, من أن أتلفن إلى زوجتي من مكتب قائد اللواء.حاولت جاهدا طمأنتها ثم أعطيتها بعض التعليمات لمواجهة الوضع المالي خلال الأسابيع القادمة.
في الغد 18 غشت تم إرسالنا إلى مركز المظليين حيث أقام الدركيون مقرا للتحقيق التفصيلي. كنا,ما بين ضباط و ضباط صف, حوالي 220 معتقلا. في زنزانة المركز كان معي ضباط الصف الذين رافقوا أمقران على متن الطائرة العمودية إلى جبل طارق. و قد رووا لي ما جرى بعد أن أمرهم أمقران بالإقلاع نحو مطار الرباط حيث حلقوا فوقه, و لما تأكدوا عيانا من هبوط الطائرة الملكية, أمرهم بالتوجه شمالا. وصلوا إلى جبل طارق في ظروف مناخية مضطربة فأخذ الليوتنان كولونيل أمقران مقاليد القيادة بنفسه و تمكن من الهبوط حيث استقبلوا من طرف ضابط بريطاني.طلب أمقران اللجوء السياسي بينما عبرنا نحن عن رغبتنا في العودة للمغرب. و بعد أن تم إيداعنا ,تحت الحراسة ?يقول صاحبي ? في أحد فنادق المدينة في تلك الليلة ,قاموا بتقييدنا وتعصيب أعيننا و إركابنا في طائرة خاصة نقلتنا إلى المغرب.
و بعد ذلك تلت مرحلة الاستنطاقات المكثفة وانتظار المحاكمة التي جرت في 17 أكتوبر 1972 .وفي 7 نوفمبر صدرت الأحكام.
كان عدد المتهمين الماثلين أمام المحكمة العسكرية 220 ضابطا و ضابط صف. فحكم على أمقران والطيارين السبعة الذين قصفوا الطائرة الملكية و المطار و القصر بالإعدام و حكم بنفس العقوبة على كل من النقيب العربي الذي كان سينتقل إلى مكناس, و على الليوتنان ليزيد مسؤول الأمن الذي فر مع أمقران إلى جبل طارق. و قد تم تنفيذ أحكام الإعدام هاته في 13 يناير 1973 عشية عيد الأضحى و يوم الوقوف بعرفة مما أثار موجة من الاستنكار في البلاد حينها.
كما تم الحكم بعشرين سنة سجنا على ثلاثة ضباط آخرين , وبأحكام تراوحت بين عشر و ثلاث سنوات على 32 من المتهمين , و برئت ساحة 117 ضابط صف معظمهم من ميكانيكيي الطائرات الذين تحتاج إليهم قيادة الأركان لصيانة طائرات ال»إف 5» الجديدة.
أما بالنسبة لي فقد طالب المدعي العام بسجني إلى الأبد لكن المحكمة قضت بمعاقبتي بعشر سنوات سجنا. شعرت بانهيار معنوي كبير خاصة أن الحكم ترافق مع خبر فاجع هو وفاة والدي .
بعد صدور الأحكام تم إيداعنا السجن المركزي بالقنيطرة, حيث وضعونا في زنازين المحكوم عليهم بالإعدام, لا شك لتكسير معنوياتنا. و قد كان الليوتنان فضول ? الذي لن أراه إلا بعد عشرين عاما تمت ترقيته خلالها إلى رتبة عقيد ? حاضرا بشكل دائم للقيام بمهمة تكسير المعنويات, و كان يقوم بها بشكل لافت استحق عليه الشكر من طرف رؤسائه.


حكايات السعدنى الحلقة السادسة عن الجنرال المغربي محمد اوفقير

حكايات السعدنى الحلقة السادسة عن الجنرال المغربي محمد اوفقير