الجمعة، 8 يناير 2021

النقيب السابق أحمد الوافي يروي تفاصيل جديدة عن تازمامارت و المحاولتين الانقلابيتين .. فشل الصخيرات المفيد

 النقيب السابق أحمد الوافي يروي تفاصيل جديدة عن تازمامارت و المحاولتين الانقلابيتين .. فشل الصخيرات المفيد

نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 31 - 08 - 2011

هما رحلتان أو قوسان انغلقا علينا ذات صيف و لم ينفتحا إلا بعد مرور ثمانية عشر عاما. قوسان عانينا بينهما أفظع ما يمكن للمرء أن يتصوره. فترة عشنا أثناءها ظروفا تتحدى كل تصور و معاناة تفوق كل خيال.
الرحلة الأولى قادتنا إلى معتقل تازمامارت الرهيب في ليلة صيفية قائظة هي ليلة سابع غشت 1973, و نحن شباب في كامل عنفواننا و قوتنا.تم اقتيادنا خلالها من السجن المركزي بالقنيطرة, الذي كنا ضيوفه بعد أن تمت محاكمتنا و صدرت ضدنا عقوبات سجنية متفاوتة (أما الذين حكموا بالإعدام فقد نفذ في حقهم يوم 13 يناير 1973 في حقل الرماية العسكري بمهدية و لم يعودوا بيننا) بسبب تورط بعضنا في إحدى المحاولتين الانقلابيتين ضد النظام الملكي للحسن الثاني.
أما الرحلة الثانية فقد تمت في 15 سبتمبر 1991 , وهي التي أعادتنا إلى دنيا البشر قادمين ,كما الأشباح, من معتقل تازمامارت و نحن أشلاء بشرية تاركين خلفنا سنوات شبابنا و جثامين ثلاثين من رفاقنا الشهداء الذين سقطوا تباعا في ظروف لا أفظع منها و لا أقسى.
في الحلقات التالية سأشاطر القارئ الكريم جزءا من تفاصيل حياتنا و معاناتنا طيلة هذه الثمانية عشر عاما في معتقل مظلم و ظالم جدير بمعتقلات القرون الغابرة. كما سأتحدث عن الظروف التي قادتنا ? بعضنا بإرادته و البعض الآخر بتضافر ظروف و مقادير لا يد له فيها ? إلى هذا المصير, أي عن المحاولتين الانقلابيتين ل 10 يوليوز 1971 و 16 غشت 1972.
أن تكون على علم بالتحضير لمؤامرة, أو أن تشك ببساطة في وجودها أو في إمكانية وقوعها, كان في تلك الآونة , يعني أنك جزء منها, و بهذه الصفة , يمكن اعتبارك مسؤولا. أن تكون متفرجا عاجزا أمام مجرياتها كان معناه مشاركتك فيها افتراضا.
فمن وضعيتي كشاهد إثبات, تحولت إلى مذنب. و كان علي تحمل هذه التهمة الغريبة: «مذنب ثانوي», لأن هذا كان موضوع صك اتهامي و إدانتي بعشر سنوات سجنا, و كان هذا أصل شقائي و عبوري الفظيع للظلمات التي سأجتازها فيما بعد.
لقد كنت في تلك اللحظة, في المكان بالضبط الذي لم يكن ينبغي أن أكون فيه...
يمكن الحديث عن «قدر شقي» عن «سوء حظ» أو عن «سوء طالع». و لكن وراء هذا التضافر المأساوي اللامعقول للظروف الذي قادني إلى أن أكون حاضرا في موقع العمليات في حين أنه كان من المنطقي ألا أوجد فيه.
لو أن تحقيقات الشرطة أو تحقيقات الجيش حول حالتي جرت كما ينبغي, و لو أن القضاء اشتغل بنزاهة و موضوعية , لما حكم علي, مثل آخرين على كل حال, بهذه العقوبة الثقيلة...
لا يمكنني الحديث عن أحداث شهر غشت 1972 دون العودة إلى أحداث الصخيرات التي سبقتها بعام, أي في يوليوز 1971, لأن هذين «الصيفين الساخنين» كما نسميهما اليوم, «أخوان» يشبهان بعضهما البعض...
فمنذ المحاولة الانقلابية الأولى و الصدى الذي أحدثته لدينا جميعا, ضباط الجيش, شعرت بشكل غامض بأن عواقب هذا الفشل ستعمل , لدى البعض منا, الذي لم يشارك فيها بشكل مباشر, على تغذية بعض الضغائن الصامتة و إيقاظ العزم المكنون لديه في إعداد و تنفيذ محاولة ثانية.
فكثير من الضباط من مختلف فيالق الجيش, غير هؤلاء الذين شاركوا مباشرة في الصخيرات (و الذين إما سقطوا في المعركة أو قتلوا بعد الحكم عليهم بالإعدام) كانوا يعلمون ,لا شك, بأن انقلابا ما يجري التحضير له. لكنهم تركوا الأمور تجري في انتظارية مترقبة, و كلهم استعداد للاستفادة من الوضع الجديد في حالة نجاح المحاولة...فوراء التحفظ الانتهازي في الكواليس الذي يجعلهم ينتظرون في الظل النتيجة النهائية.كان عدد منهم , لا شك, مقتنعا بالأسباب العميقة لهذه المحاولة الأولى و أهدافها.
ففي تلك الآونة كانت رياح الاستياء و الاحتجاج تهب بقوة على البلاد التي كانت تعيش وضعا عصيبا على الأصعدة الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية. و كان السخط العام الناتج عن هذه الوضعية التي تغذيها الأحزاب السياسية و النقابات. و هكذا ولدت الرغبة في تغيير الحكم و اكتسحت الكثير من العقول, بعيدا عن حقل الجمود و الفساد المنظم لكافة المسؤولين الحكوميين و أعضاء المحيط الملكي, و كان استيلاء الجيش على الحكم مؤقتا من أجل إخراج البلاد من الركود التام الذي تتخبط فيه, هو الخيار الذي ينتظره عدد كبير من الناس. و هكذا حين حصلت المحاولة الانقلابية الأولى فإنها لم تثر سوى نصف مفاجأة...
السبت 9 يوليوز 1971; نحن عشية الاحتفال بالذكرى الثانية و الأربعين لميلاد الملك.و كما أصبح معتادا فإن حفل استقبال كبير سيتم في الغد بقصر الصخيرات, أحد الأماكن المفضلة لدى العاهل.
وعلى غرار السنوات السابقة فإن الليوتنان كولونيل أمقران, قائد القاعدة الجوية للقنيطرة حيث أمارس كرئيس للموارد التقنية, مدعو لحفل الاستقبال هذا.
في هذا اليوم, و خلال الصبيحة, توجهت إلى مكتبه كي أطلب منه الترخيص لي لمغادرة القاعدة. و شرحت له السبب كالتالي: ينبغي أن أذهب إلى المفوضية المركزية بالدار البيضاء كي أحل مشكلا لأحد أصدقائي المقربين.
لم أكن أتوقع منه أن يرفض, لهذا فقد كانت مفاجأتي هائلة حين سمعت جوابه و هو يهز رأسه:
-أنا آسف يا الوافي , لكن لا يمكن أن أوافق لك. الجميع ينبغي أن يبقى في موقعه لأن شيئا ما سيحدث غدا ,لا شك, بمناسبة الاحتفال بعيد ميلاد جلالة الملك...
ولأني بقيت أنتظر منه مزيدا من المعلومات, فقد بدا مضطربا. و شعرت به يتردد في مواصلة الحوار و إعطائي توضيحات حول الموضوع. و لأني اندهشت شيئا ما لهذا التردد غير المفهوم ,من جانبه, سألته:
- هل سنقوم باستعراض جوي فوق الرباط, سيدي العقيد؟
فأجابني بسرعة مؤكدا كما لو أنه ارتاح للجواب الذي اقترحته
- نعم, من الممكن جدا أن يطلب منا ذلك.
أزعجني رفضه ذاك . فقد وعدت صديقي بالاهتمام بقضيته و حلها, بل ذهبت إلى حد تحديد الموعد معه داخل المفوضية المركزية. و كان من الصعب علي تأجيل كل ذلك إلى موعد لاحق. لهذا وكي أقنع رئيسي بالموافقة على الترخيص, قلت له:
- ليكن ,سيدي العقيد, أستطيع العودة للقاعدة هذا المساء نفسه...
تردد مرة أخرى ,ثم وافق أخيرا قائلا:
- في هذه الحالة, موافق, لكن أترك لي مع ذلك رقم هاتف أتصل بك بواسطته إذا اقتضى الأمر ذلك. لا ندري أبدا ما قد يقع...
توجهت إذن إلى الدار البيضاء و معي زوجتي و ولداي. و هناك تناولنا وجبة الغذاء في منزل أخي إدريس.
في عشية نفس اليوم, بالمفوضية المركزية,تمت فعلا تسوية مشاكل صديقي , كما توقعت. و مع ذلك أبلغونا بأن التوقيع على المحضر النهائي المتعلق بالقضية لن يتم إلا في الغد و أنه علينا العودة مجددا.
وعند رجوعي إلى بيت أخي, لم أجد أي اتصال من الليوتنان كولونيل أمقران . فاستنتجت بأنه لن يكون هناك أي استعراض جوي في سماء الرباط غدا, و أنه ليس هناك إذن ما يستدعي حضوري للقاعدة الجوية. و هكذا قررت,بالاتفاق مع زوجتي, على أن أمضي الليلة بالدار البيضاء...
أمقران كان على علم بانقلاب الصخيرات
الأحد 10 يوليوز 1971
في بداية الزوال, توجهت مرفوقا بصديقي و أخي مرة أخرى إلى المفوضية المركزية للتوقيع على محضر لقاء الأمس.
حوالي الرابعة زوالا, و بينما كنا لا نزال بمكاتب المفوضية, حدث هرج و مرج مفاجئان و سادا في البناية كلها.كانت هناك حركة غير عادية و صياح و ركض في الدهاليز... كما لو أن ريح هلع ? أو ريح عيد لأن البعض كان يضحك و يهنئ بعضه بعضا- هبت فجأة. أستوقفت ضابط شرطة مار بالدهليز و سألته عن سبب هذا الهرج كله فقال:
- لقد حدث شيء ما في قصر الصخيرات. يبدو أن انقلابا قد حصل و أن الجيش هو من قام بذلك...
أبكمتني المفاجأة, فسألني أخي الذي فوجئ بدوره:
- هل تعتقد أن الأمر صحيح يا أحمد؟ هل أنت على علم بشيء ما؟
لم أجد جوابا سوى:
- لا . لا أعرف...
غادرنا المفوضية بسرعة و قفزنا في سيارتي. أدرت المذياع على موجة الإذاعة المغربية من الرباط, كانت الأناشيد و الموسيقى العسكرية تبث منها. لا شك أن حدثا عظيما قد وقع.
انتشر نبأ الانقلاب العسكري بشكل سريع, إذ مع خروجنا من مربض المفوضية لا حظنا صخبا محموما يسود في شوارع المدينة بكاملها. تزاحم على الأرصفة المكتظة و أناس يركضون في مختلف الاتجاهات...بينما تمر جماعات من الشباب أمام السيارات رافعين أذرعهم إلى السماء و هم يرقصون. حدثت فوضى مرورية خانقة في كل ملتقى طرق مرفوقة بزعيق مزعج لمنبهات السيارات...
لكي نعود إلى منزل أخي, كان علينا أن نعبر الدار البيضاء بأكملها في صمت و قلق مطبقين. ركزت ذهني على قيادة السيارة, لكني في داخلي, لم أتمكن من منع نفسي من تذكر التصرف الغريب لليوتنان كولونيل أمقران و تردده الكبير في الترخيص لي بمغادرة القاعدة, و خاصة جملته الصغيرة التنبؤية : «شيء ما سيحدث غدا لا شك...» ثم تردده في أن يضيف المزيد. تأكد لي آنذاك بأنه كان على علم بما سيحدث...
و كونه لم يخبرني بذاك آلمني و أمضني , خاصة أن علاقتنا كانت وطيدة على الصعيدين المهني و الشخصي و على صعيد أسرتينا معا. لذلك فإن تستره و تكتمه على حدث بمثل هذا الحجم جرحني بشكل كبير, و رأيت فيه عدم ثقة من جانبه حيالي, بل خيانة تقريبا...
توقفت الموسيقى العسكرية بالإذاعة و أعقبها خطاب يعلن إلغاء الملكية و استيلاء الجيش على الحكم و دعوة للجماهير إلى التزام الهدوء مهما حدث.
و لدى عودتنا إلى البيت, أخبرتني زوجة أخي بأن الليوتنان كولونيل أمقران اتصل هاتفيا يطلب مني موافاة القاعدة في أسرع الآجال. و أضافت بأن العقيد أكد على أن هذا أمر ينبغي تنفيذه.
دون أن أضيع الوقت,تركت زوجتي و ولداي بالدار البيضاء, و أخذت طريق العودة إلى القنيطرة رفقة أخي إدريس.
و أنا في الطريق كنت موزعا بين مشاعر متضاربة , يداهمني سيل جارف من التساؤلات. من ? داخل الجيش- نظم كل هذا؟ هل شارك الليوتنان كولونيل أمقران فيها بشكل مباشر؟هل تم قتل الملك؟هل تنازل عن العرش؟ ماذا سيجري الآن؟ من سيقود البلاد؟ كيف ستصبح الأمور؟ ماذا سيطلب منا؟...
كان أخي هو من يقود السيارة, و كان يقود, الفيات 125 , بأقصى سرعة. و طيلة الوقت كانت المارشات العسكرية تتوالى بالإذاعة الواحد تلو الآخر, و بين فينة و أخرى, كان البث يقطع فجأة و يعاد تذييع الرسالة التي تدعو الجماهير إلى الهدوء.
و لدى اقترابنا من الصخيرات, أوقفنا حاجز طرقي, كان الأمر يتعلق بتلاميذ ضباط صف من مدرسة أهرمومو , برؤوسهم الحليقة و سحناتهم القاسية, حاملين رشاشاتهم. و حين رأوا بدلتي العسكرية, ابتعدوا عن السيارة و تركونا نمر دون مشاكل. و على مدى مئة متر تقريبا كانت مركبات مدنية رابضة على جنبات الطريق في حين كانت أخرى تحاول العودة من حيث أتت.
بتجاوزنا للرباط لاحظنا ازدحاما غير معهود أمام محطات البنزين , فقد كانت طوابير طويلة من السيارات تنتظر تعبئة خزاناتها من البنزين. فكرد فعل أمني متجذر لدى الناس, ما أن تبزغ فترة اضطرابات في الأفق حتى يبادر الجميع إلى الاستعداد بتموين منازلهم بالمواد الأساسية من سكر و شاي و طحين و خضر جافة, و...بنزين للسيارات.
و حين وصولنا إلى القاعدة حوالي السابعة و نصف مساء, أنزلني أخي أمام الحظيرة التي تحوي أوراش الطائرات و التي يوجد بها مكتبي, ثم عاد فورا إلى الدار البيضاء, مزودا برخصة موقعة من طرفي كي يسمح له بالمرور في حالة إيقافه من طرف حاجز عسكري...
ما أن دلفت إلى مكتبي, حتى جاءني الملازم الطويل, رئيس الأوراش. لدى عبوري القاعدة كان لدي الوقت لألاحظ أن الطائرات كانت رابضة باصطفاف على المدرج , على أهبة الإقلاع و هي مسلحة جميعها, فطلبت منه توضيحات عن ذلك:
- لماذا تم تسليح الطائرات؟ و لماذا هي جاهزة للإقلاع؟ من أصدر الأوامر بذلك؟
- إنه العقيد. إذا أردت رؤيته فهو في مركز القيادة...
غضبت عليه قائلا:
-ماذا حدث يا الطويل, ما معنى هذا؟ لقد تجاوزت مهامك بكثير, إنك تعلم تماما أنه ليس من صلاحيتك تسليح الطائرات في غيابي, فأنا الوحيد من له الحق في تحديد أي طائرة ينبغي تسليحها, أنا الوحيد من له صلاحية إصدار الأوامر بذلك...
- أنا آسف يا الوافي. لكنك لم تكن هنا لحظة إصدار الرئيس لهذا الأمر. كان ينبغي أن أؤمن الديمومة. ماذا تريدني أن أفعل؟ لم يكن بإمكاني سوى تنفيذ الأمر...
- هل كان هناك أمر مكتوب على الأقل؟
- لا
- يا الطويل, هل أنت واع بخطورة ما فعلت؟ إنك تعلم ما حدث في الصخيرات؟ إذا ما أقلعت طائراتنا في مهمة هجومية و نحن نجهل تماما تطور الأحداث, سنكون أنت و أنا من أول المتورطين.
شعرت فجأة بأن الأحداث تتجاوزني. كان علي أن أرى الليوتنان كولونيل أمقران فورا, فتوجهت إلى مكتبه بسرعة.
كان يوجد هناك صحبة الكومندان حجاجي, رئيس برج المراقبة, بدا سعيدا لرؤيتي.
-آه . ها أنت أخيرا, خذ لك مقعدا و اجلس.
ثم سألني:
- هل عدت إلى القاعدة مباشرة من البيضاء أم مررت بالقيادة العامة؟
شعرت من صوته بأنه قلق و مرتاب
- لقد حضرت مباشرة,سيدي العقيد, ما أن أبلغوني رسالتكم. لماذا؟
بدا مرتاحا لجوابي و قال:
-لا...أبدا ..لا لشيء... جيد.
كان لحظتها بادي التوتر, و لا شك ما زال تحت تأثير ما عاشه ذاك اليوم.
و مع ذلك , و دون مقدمات, شرع يحكي لي عن الأحداث التي وقعت بالصخيرات و التي حضر جزءا منها: الاحتفال الباذخ بالقصر و حدائقه, الموائد الممدودة داخل الخيام , الأطعمة الفاخرة و الضيوف المسترخون المرحون و لاعبو الغولف ثم فجأة الدخول المفاجئ للتلاميذ الضباط المسلحين, زخات الرشاشات و المدافع الرشاشة, انفجار القنابل اليدوية, الهلع و الدماء و المجزرة...
ثم حكى لي فراره


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حكايات السعدنى الحلقة السادسة عن الجنرال المغربي محمد اوفقير

حكايات السعدنى الحلقة السادسة عن الجنرال المغربي محمد اوفقير