الجمعة، 8 يناير 2021

النقيب السابق أحمد الوافي يروي: تفاصيل جديدة عن تازمامارت و المحاولتين الانقلابيتين

 النقيب السابق أحمد الوافي يروي: تفاصيل جديدة عن تازمامارت و المحاولتين الانقلابيتين

نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 04 - 08 - 2011

بعد الصدمة الأولى التي ارتطمنا بها داخل السجن الانفرادي , في هذا المعتقل المظلم ظلاما دامسا, و الذي من شأنه القضاء علينا قضاء تدريجيا و تاما ,وصلنا إلى نتيجة بأن الحياة ستكون مستحيلة في هذه الشروط الفظيعة.
اختلفت ردود فعل كل واحد منا عن الآخر في محاولتنا رفض هذا الواقع و هي ردود فعل تراوحت بين الخوف المميت المجمد لكل قدرة على المقاومة, مما يدفع صاحبه إلى الصمت و الاعتكاف المتاخم للغياب, و بين التمرد المفاجيء و الصراخ المحتج و اللامتناهي أو الاستغاثة المدمية للقلوب, في أي وقت من الليل أو النهار غير مبال صاحبها بمناشدات أو احتجاجات الباقين.
هذا الوضع المزعج حول حياتنا البئيسة أصلا بالمعتقل إلى جحيم يصب حممه على الأعصاب و يكاد يفقدنا الصواب و يضعنا على حافة جنون يستعصي على الوصف. أتفهم الآن,بعد الابتعاد الزمني و الجغرافي عن تازمامارت, ردود الفعل هاته لأنها ردود بشرية طبيعية على أوضاع لا تطاق ,بيد أن هذه الفوضى كان من شأنها, لو استمرت, أن تفاقم حالة اليأس الجماعي التي تتلبسنا و ستنتهي حتما بالقضاء علينا.
و قد اكتشفنا أن الوسيلة الوحيدة للبقاء على قيد الحياة و الحفاظ على حياتنا الجماعية في ظل هذه الشروط, هي التواصل بيننا و احترام بعضنا لبعض. لهذا بات من أوجب الواجبات تنظيم حياتنا بوضع قانون حازم ينطبق على الجميع, لا فرق فيه بين رتبة و أخرى, فنحن جميعا في سفينة واحدة إن غرقت غرق الجميع.
كان أول قرار هو فرض جدول زمني مضبوط ينظم مواعيد الاستيقاظ و مواقيت الراحة و النوم. و كان علينا أيضا أن نتواصل مع بعضنا البعض, أن نصل إلى بعضنا و ننصت لبعضنا و نصلي مع بعضنا. كان علينا أن ننظم تساكنا جيدا حتى تمر فترة اعتقالنا ?التي لم نكن نتوقع أن تكون بهذا الطول ? بأقل الأضرار.
كان من ضمن المعتقلين الأكبر سنا بعض الضباط المحترمين, الذين اقترحوا برنامجا لضمان العيش و مقاومة اليأس, ينبني على تحليل بسيط: «هذا هو وضعنا, وهذا ما نتوفر عليه». و قد ساعدنا تكويننا العسكري الصارم الذي هيأ بعضنا للظروف القاسية ماديا و معنويا في محاربة هذا العدو الجديد : اليأس و الخور.
و هكذا منذ اليوم الثاني وضعنا برنامجا مفصلا ينبغي احترامه و اتباعه حرفيا من طرف الجميع, و يتعرض كل من خرقه للإقصاء و حظر التعامل معه لمدة معينة. فرغم ما نعانيه من قسوة فرضها علينا جلادونا فهناك مجال للمزيد من العقاب بالنسبة للذين لا يحترمون الجماعة.
كان أول تدبير ?كما قلت في السابق ? هو وضع الجدول الزمني اليومي , المرتكز على المواعيد الثابتة للوجبات الغذائية (الدخول المنتظم للحراس لمدة خمسة عشر دقيقة تقريبا كل مرة) و على حلول الليل كي نضمن حدا أدنى من الراحة للجميع.
و هكذا خصصنا الفترة الصباحية قبل الإفطار للأعمال الخاصة مثل تنظيف الزنزانة أو تصبين «الملابس» أو «الاستحمام» (سنرى في الحلقات القادمة كيفية «التصبين» أو «الاستحمام» أو» التنظيف» ). أما فترة ما بعد الإفطار فقد خصصناها لتلاوة القرآن الكريم. و قد كان الطيار المكوتي يملك, إضافة لحفظه عدة سور من القرآن, صوتا رخيما و عذبا كان يبعث الطمأنينة في قلوبنا الوجلة المكلومة, و كذلك كان محمد غلول أيضا.
ثم تحولت هذه التلاوة الصباحية إلى دروس لتحفيظ القرآن حتى بات أغلبنا ?حتى أولئك الذين كانوا يلحدون قبل اعتقالهم - يحفظ عن ظهر قلب عددا من سور القرآن. و قد كنت من جهتي حافظا لسورة يوسف و كنت أعزها كثيرا (لأن إبني البكر إسمه يوسف) فعملت على تحفيظها للباقين, و كل من يحفظ سورة منه كان يحفظها للآخرين أو للراغبين منهم.
و حتى لا تعم الفوضى عملية التحفيظ , عملنا على توزيع الحصص التي تتراوح بين عشر دقائق و ربع ساعة للحصة, على كل إثنين منا, أحدهما المعلم و الثاني هو التلميذ. و لم يكن توزيع الحصص بالأمر الهين, إذ كانت بنايتنا التي تضم تسعا و عشرين زنزانة, توزعت مجاليا إلى قسمين: القسم الأول ,من الزنزانة رقم 1 إلى الزنزانة رقم 15 و هي على شكل قوس ضيق يبدأ مباشرة يمينا بعد الباب المركزي للبناية و يعود لينتهي أمامه تقريبا , و على اليسار تصطف بنفس الشكل (القوس الضيق) الزنزانات من الرقم 16 إلى الرقم 29 .لذلك طلب من كل قسم أن ينظم دروسه الخاصة بنفسه, ثم طلب من كل اثنين متجاورين أو متقابلين ترتيب حصصهما بشكل لا يزعج الآخرين. و بالإضافة إلى عنصر القرب هذا الذي فرض تلك العلاقة بين المعلم و المتعلم, كان هناك التقارب الوجداني أو القبلي أو الانتماء لسلاح واحد عنصرا مكملا لترتيب هذه الثنائيات التعليمية.
(الحلقة المقبلة: سهرات بعد العشاء)
و مع مرور الوقت تطورت هذه الدروس من تعليم القرآن الكريم وتحفيظه فقط إلى دروس في اللغات أو في الرياضيات, و هكذا تعلم محمد غلول اللغة الانجليزية في المعتقل كما أصبح الفاغوري قادرا على حل أعقد المعادلات الرياضية. و منا من طور لغته العربية أو تعلم اللغة الفرنسية بشكل جيد خاصة من بين المعتقلين الأدنى رتبة.
و مباشرة بعد الغذاء منحنا أنفسنا ربع ساعة للحوارات المختلفة قبل أن تحل فترة القيلولة الإجبارية, و التي كان يسود خلالها الصمت التام حتى يتمكن الراغبون في أخذ قيلولتهم من النوم بهدوء, أما غيرهم فيقومون بما يحلو لهم شريطة ألا يزعجوا رفاقهم الباقين.و تمتد فترة القيلولة هذه حتى حلول موعد صلاة العصر حيث يكون الأذان ?الذي يقوم به أحدنا- إيذانا بنهاية القيلولة.
أما بعد العشاء, فقد كانت هي الفترة الأجمل التي ننتظرها بفارغ الصبر. فقد كنا ننظم سهرات تتخللها أغان كلاسيكية لعبد الحليم حافظ أو فريد الأطرش أو محمد عبد الوهاب و كنا ننصت لأفلام متنوعة من الأفلام الرومانسية أو أفلام الحرب و التجسس و غيرها...
و كان من أفضل رواة الأفلام في مجموعتنا المرحوم محمد الرايس , الذي أمتعنا رحمه الله بطريقته الفريدة في سرد التفاصيل الصغيرة و وصف نفسيات الأبطال و ضبط الأحداث بشكل يحبس الأنفاس, و يشدنا إلى صوته المنبعث من الزنزانة شدا متينا, لدرجة أن جميع الأصوات كانت تخمد و تعنو لصوت وحيد هو صوت الرايس .و قد كان يتجشم مشقة الوصول إلى ثقب باب زنزانته كي يبعث بصوته إلى آذاننا المتلهفة, فيقف فوق بقرجه البلاستيكي (البرو) و يمسك بيديه الاثنتين جانبي الباب و يبدأ سرده الذي كنا نتمنى ألا ينتهي. و قد كانت مهمته تزداد صعوبة في الليالي الباردة حين كان يضطر مرارا إلى وقف سرد روايته - مثل الفواصل الإشهارية- ليتحرك داخل زنزانته من أجل تسخين أطرافه و الحؤول دونها و التجمد, قبل أن يواصل رواية أحداث الفيلم.
و قد كنت أنا أيضا أساهم في هذه السهرات الليلية برواية بعض قصص الجاسوسية الواقعية, لجواسيس عالميين كبار أو أحكي بعض أفلام الغرب الأمريكي (الويسترن) و لكن طبعا بمهارة أقل بكثير من الرايس, مما جعل جمهور المتفرجين- المستمعين لا يميلون إلى رواياتي ميلهم لروايات المرحوم الرايس.
و كانت السهرات الليلية تتخللها أيضا وصلات غنائية تقليدا لكبار المطربين الكلاسيكيين الشرقيين أمثال محمد عبد الوهاب و فريد الأطرش و عبد الحليم حافظ و أم كلثوم و أسمهان و غيرهم. كما كانت الأغاني الغربية أيضا ضمن فقرات السهرة مثلها في ذلك مثل الأغاني المغربية, التي كانت إما أغان عصرية (هكذا كانت تسمى في ذلك الوقت) أو أغان شعبية بدوية.
و كان من أفضل المغنين في المعتقل أحمد مرزاق الذي أطلقنا عليه إسم البلبل
و لم تكن هذه السهرات تقتصر على الأفلام و الأغاني بل كانت تتخللها أيضا نكت مثيرة للضحك و مواقف ساخرة لا تقل إضحاكا لنا نحن الذين كنا نعيش كأشباح معزولين داخل زنازيننا لا نعرف بعضنا البعض إلا بالصوت.
و بطبيعة الحال لم تكن ليالينا كلها سهرات , فبعد عدة أشهر انتهى مخزوننا من الأشرطة و الأغاني و بدأنا نكرر الكثير منها. بيد أننا لم نكن نعدم مواضيع للحديث أو النقاش ,ففي الليالي الأخرى كنا نتحدث عن حياتنا الماضية و عن المستقبل الذي ينتظرنا, و كنا نتخيل طرقا غريبة للفرار من هذا المعتقل الرهيب
و نتساءل عن طرق اتصالنا بعائلاتنا و إبلاغهم بمكاننا و وضعيتنا.
الحلقة المقبلة : غذاؤنا و تعايشنا مع الحشرات



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حكايات السعدنى الحلقة السادسة عن الجنرال المغربي محمد اوفقير

حكايات السعدنى الحلقة السادسة عن الجنرال المغربي محمد اوفقير