الجمعة، 8 يناير 2021

النقيب السابق أحمد الوافي يروي تفاصيل جديدة عن تازمامارت و المحاولتين الانقلابيتين

 النقيب السابق أحمد الوافي يروي تفاصيل جديدة عن تازمامارت و المحاولتين الانقلابيتين

نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 07 - 09 - 2011

هما رحلتان أو قوسان انغلقا علينا ذات صيف و لم ينفتحا إلا بعد مرور ثمانية عشر عاما. قوسان عانينا بينهما أفظع ما يمكن للمرء أن يتصوره. فترة عشنا أثناءها ظروفا تتحدى كل تصور و معاناة تفوق كل خيال.
الرحلة الأولى قادتنا إلى معتقل تازمامارت الرهيب في ليلة صيفية قائظة هي ليلة سابع غشت 1973, و نحن شباب في كامل عنفواننا و قوتنا.تم اقتيادنا خلالها من السجن المركزي بالقنيطرة, الذي كنا ضيوفه بعد أن تمت محاكمتنا و صدرت ضدنا عقوبات سجنية متفاوتة (أما الذين حكموا بالإعدام فقد نفذ في حقهم يوم 13 يناير 1973 في حقل الرماية العسكري بمهدية و لم يعودوا بيننا) بسبب تورط بعضنا في إحدى المحاولتين الانقلابيتين ضد النظام الملكي للحسن الثاني.
أما الرحلة الثانية فقد تمت في 15 سبتمبر 1991 , وهي التي أعادتنا إلى دنيا البشر قادمين ,كما الأشباح, من معتقل تازمامارت و نحن أشلاء بشرية تاركين خلفنا سنوات شبابنا و جثامين ثلاثين من رفاقنا الشهداء الذين سقطوا تباعا في ظروف لا أفظع منها و لا أقسى.
في الحلقات التالية سأشاطر القارئ الكريم جزءا من تفاصيل حياتنا و معاناتنا طيلة هذه الثمانية عشر عاما في معتقل مظلم و ظالم جدير بمعتقلات القرون الغابرة. كما سأتحدث عن الظروف التي قادتنا ? بعضنا بإرادته و البعض الآخر بتضافر ظروف و مقادير لا يد له فيها ? إلى هذا المصير, أي عن المحاولتين الانقلابيتين ل 10 يوليوز 1971 و 16 غشت 1972.
الإثنين 11 يوليوز 1971.
في الثانية صباحا, أُُبلغ الليوتنان كولونيل أمقران باستدعاء الجنرال أوفقير له للمثول إلى قيادة الأركان بالرباط. اتصل بي أمقران بواسطة الخط الداخلي للقاعدة كي يُعلمني بذلك, فالتحقت به أمام العمرات السكنية. و في لحظة مغادرته لنا, شعرت بأنه متوتر كالمحموم. فقد بدا جليا أن هذا الاستدعاء يُقلقه, فأخذني جانبا و فتح قلبه لي قائلا:
- لماذا في نظرك, طلب الجنرال رؤيتي؟ هل تعتقد أنه يشك في كوني متورطا فيما حدث؟
حاولت ما أمكنني أن أطمئنه فأجبته:
- لو كان يشك في تورطك حقا في هذه القضية, لكنت الآن من بين المعتقلين. لا يتعلق الأمر إلا باستدعاء, فالجنرال أوفقير يرغب و لا شك في أخذ رأيك حول الوضع...
هز رأسه غير مقتنع تماما,فأضفت حينها:
- لكني أنصحك بأمر مهم, كيفما كانت نوعية الأسئلة التي يطرحها عليك, لا تكذب على الجنرال. فأنت تعلم أنه يملك الآن كافة السلطات. إذن ? فقل له الحقيقة كاملة حول ما تعرف و لا تُخفِ عنه شيئا بالإمكان أن يعرفه فيما بعد...
هز رأسه مرة أخرى, لكني لاحظت أنه لم يستوعب ما أردت قوله. و دون إبطاء أخذ الطريق نحو الرباط رفقة إثنين من ضباط الصف.
و في وقت الفطور, بنادي الضباط, رجع الليوتنان كولونيل. كنا جميعا متوترين باديي التعب بسبب السهر طيلة الليل, بيد أنه هو عاد منشرحا. و غابت عن وجهه تلك السحنة القلقة التي كانت تعلوه قبل بضع ساعات. و لأني أبديت استغرابي للأمر أخذني جانبا و روى لي تفاصيل لقائه مع الجنرال :
- أريد أن أحكي لك ما حصل و كيف حصل. حين وصولي هناك كان علي الانتظار طويلا قبل أن يستقبلني.لم أكن وحدي بل كنا كثيرين تم استدعاؤنا. حين حل دوري, استقبلني الجنرال,كان يمسك بيده اليسرى فنجان قهوة بينما وضع يده اليمنى على بندقية رشاشة فوق مكتبه. كان هناك حوالي عشرة من ضباط سلاح البر معه داخل القاعة. أمرني بالقول: « إجلس هنا أمامي...». و ما أن جلست حتى بادرني بسؤال مباشر عما إذا كنت على علم بأمر الانقلاب . أجبته بأني لم أكن أعرف شيئا. ثم سألني ثانيا:»ما هي علاقتك بالجنرال مدبوح؟» و هذا ما قلت له حرفيا «إنه من زوار القاعدة سيدي الجنرال.فهو يأتي لها لممارسة الغولف.و إذا كان يدعوني في أغلب الأحيان لمرافقته فلأنني انحدر من منطقة الريف مثله.ثم كي أكون صريحا معكم سيدي الجنرال, فإن مرافقة أصحاب الرتب العسكرية الأعلى يمنح قيمة مضافة.هذه هي العلاقة الوحيدة التي تربطني معه. و اعلموا ,سيدي الجنرال, أنه لو كنت أريد القيام بانقلاب لنظمته أنا نفسي. فأنتم تعلمون أني أتوفر على طائرات مقاتلة أسرع من الصوت, و على سلاح عالي التطور و على طاقم مؤهل و كفؤ...». و كما لو فُوجئ بما قلت له, ظل الجنرال صامتا بعض الوقت, ثم نهض فجأة و تقدم ليعانقني قائلا :»كن مطمئنا يا أمقران...بعض أصدقائك الطيارين الذين يحسدونك على مركزك يودون استغلال هذه الظروف لتصفيتك. فعليك أن تحذر منهم في المستقبل...لكني أعلم الآن بيقين تام أنك ضابط يحب وطنه. إعلم أنه انطلاقا من اللحظة فإنك أحد أعضاء قيادتي العليا. ستكون ذراعي الأيمن و إني أعينك مؤقتا مسؤولا عن قواتنا الجوية» و تصور أنه أخذ التلفون أمامي و اتصل بالملك نفسه لإبلاغه بذلك...هكذا مرت الأمور. ألا ترى أنني قد أحسنت صنعا؟...
لم أجد جوابا آنذاك. لكن الآن, و بالتفكير مليا في الأمر ,أفهم بأنه إذا كان الجنرال أوفقير قد نجاه ذلك اليوم و تصرف معه بذلك السلوك الودي, فلأن أمقران قدم له فكرة القيام بمحاولة انقلابية ثانية لحسابه الخاص...
الأربعاء 13 يوليوز 1971
في هذا اليوم,زارني الليوتنان الطويل في مكتبي.
بعد كل هذه الأحداث المتسارعة التي جرت, كان قلقا. أكد لي بأنه أصبح من الخطير,بالنيبة لنا, أن نسلح الطائرات المقاتلة بأمر شفوي من الليوتنان كولونيل أمقران و تحت ضغط ضباط ينتمون لأسلحة أخرى.
- سيدي القبطان ,قال لي, من اللازم أن نحمي أنفسنا, كي نتفادى تورطنا دون إرادة منا في قضية أخرى مماثلة.ينبغي بكل تأكيد التوصل إلى حل لهذا المشكل.
- كلامك معقول يا الطويل, قلت له, أعرف هذا تماما مثلك و فكرت فيه أيضا أنا نفسي...لقد منحني العقيد صلاحية كاملة لإعداد آليات احترازية جديدة, هاك إقرأ هذه الورقة و أعطني رأيك...
قدمت له المذكرة التي كنت قد أتممت تحريرها,في جطوطها العريضة, بخصوص التعليمات ?الداخلية و الخارجية- التي ينبغي أن تسري منذ الآن على مسطرة تسليح الطائرات المقاتلة.
قرأها باهتمام ثم قال لي:
-هذا جيد, هذا ما ينبغي اتباعه.هكذا على الأقل, سنصبح مرتاحين...
حتى تلك الآونة كانت المسطرة الجاري بها العمل هي التالية:
- رئيس الموارد العملياتية يحدد مهام اليوم و مسارات الطيران
- بعد ذلك يوجه الأمر لمكتب العمليات كي يعين الربابنة الذين ينبغي أن يكلفوا بهذه المهام, و يوزعها على كل واحد منهم بالتحديد.
- بالموازاة مع ذلك, يبلغ الضابط رئيس المدرج بتعليماته تلك.
- هذا الأخير يبلغ الأوامر إلى رئيس ورش التسليح كي يقوم بتسليح الطائرات.
- و بالموازاة يتم إرسال كناش الطائرات إلي كي أحدد أيا من الطائرات جاهزة و قادرة على القيام بالمهام المطلوبة.
أما المذكرة التي حررتها, فقد قمت فيها بتوصيف الجهاز الجديد الذي ينبغي أن يشرف على أي عملية تسليح للطائرات في مهمات القصف.
وهكذا لن تتم هذه العملية ابتداء من الآن إلا بطلب صريح نابع من مصلحة العمليات يشير إلى نوع المهمة التي ستقوم بها الطائرة, و نوع و كمية السلاح المطلوب للمهمة, و كذا عدد الطائرات المطلوبة. و طلبت بعد ذلك أن يكون الأمر ممهورا بإمضاء رئيس الموارد العملياتية و أن يمر عبر قيادة القاعدة, التي عليها أن تضع تأشيرة الموافقة عليها مع تأكيد القيادة العامة للقوات الملكية الجوية. و في نهاية هذه المسطرة , يمكن للأمر أن يوجه إلى رئيس الموارد التقنية, الذي هو أنا, للتنفيذ.
و حين أنهيت تحرير و تنقيح هذه المذكرة, قمت بتوجيه نسخة منها إلى العقيد أغيزول قائد القوات الملكية الجوية ,و أخرى للمكتب الثاني , و ذلك على سبيل الاحتياط. و حينها فقط بعثتها إلى مكتب الليوتنان كولونيل أمقران للموافقة و الأمر بالتنفيذ.
لكن, في البداية و عكس كل توقع, رفض هذا الأخير المصادقة عليها دون حتى أن يُعلمني بقراره أو بملاحظاته. فوجدتني حينها مضطرا إلى توقيعها أنا نفسي على مستواي فقط , أي مستوى الموارد التقنية, و توزيعها على مختلف المصالح المعنية:مصلحة العمليات, مصلحة أوراش التسليح و مصلحة المدرج.
و بعد ذلك بوقت قصير ,علمت أن مصلحة العمليات,رغبة منها في مواصلة تنظيم القيام بمهام القصف بمبادرتها الخاصة,رفضت رفضا قاطعا هذه التعليمات الجديدة.
و كان الكوماندان كويرة و القبطان العربي الطياران من بين الرافضين بقوة لتطبيق المذكرة. و حين جاءني كويرة مرة يسألني عن سبب رفضي تسليح الطائرات, أجبته بأني لا أرفض تسليحها لكني لن أفعل حتى يتم احترام جميع المراحل المنصوص عليها في المذكرة التي علقتها. استشاط كويرة غضبا, و توجه فورا للتشكي لدى الليوتنان كولونيل أمقران, قائلا له أن الوافي يرفض تسليح الطائرات...و هو ما دفع هذا الأخير إلى استدعائي إلى مكتبه حيث فسرت له الأسباب الوجيهة التي فرضت هذه المسطرة الجديدة. اقتنع الليوتنان كولونيل أمقران آنذاك بالمسوغات التي قدمتها و وافق على المصادقة على المذكرة و أمر بنشرها في كافة المصالح المعنية بالقاعدة الجوية.
بيد أن هذا الحادث كان سببا في تسميم علاقاتي بشكل جدي مع مصلحة العمليات. و اضطررت فيما بعد مرارا إلى التدخل لدى هذه المصلحة, من أجل تذكير الجميع بالمسطرة الجديدة السارية و التي ينبغي احترامها و تطبيقها حرفيا.
وقد فهمت ,فيما بعد, أسباب هذه المعارضة الشرسة للمذكرة التي حررتها, فقد كانت تشكل عائقا أمام المخطط الذي كان الليوتنان كولونيل أمقران و الكوماندان كويرة يقومان ببنائه تدريجيا, تحت رعاية الجنرال أوفقير:المحاولة الانقلابية الثانية,التي تم اتخاذ القرار للقيام بها و التي قد تلعب فيها طائراتنا «إف 5» دورا حاسما.
و بالفعل, و غداة إخفاق محاولة الصخيرات الانقلابية, تبرعمت في ذهن الجنرال و لدى بعض الضباط المؤمنين بتغيير النظام, فكرة محاولة ثانية يتولاها سلاح الجو مباشرة. و ليس لدي من دليل على ذلك سوى الزيارات المتكررة, خلال الشهور التالية, التي شرع الجنرال في القيام بها بانتظام للقاعدة, مُظهرا فجأة اهتماما خاصا و متزايدا لهذه الأخيرة, إن على مستوى عملها أو على مستوى مجموع العاملين بها.
و هكذا أصبحنا نراه كثيرا بالقاعدة, بشكل مباغت و غير رسمي في معظم الأحيان, معطيا بالموازاة مع ذلك وزنا أكبر لليوتنان كولونيل أمقران. و هذا ما أكد صدق ما نقله لي هذا الأخير, عقب لقائه مع الجنرال : «إعلم أنك منذ الآن ستصبح ذراعي الأيمن»...
الإثنين 11 يوليوز 1971.
في الثانية صباحا, أُُبلغ الليوتنان كولونيل أمقران باستدعاء الجنرال أوفقير له للمثول إلى قيادة الأركان بالرباط. اتصل بي أمقران بواسطة الخط الداخلي للقاعدة كي يُعلمني بذلك, فالتحقت به أمام العمرات السكنية. و في لحظة مغادرته لنا, شعرت بأنه متوتر كالمحموم. فقد بدا جليا أن هذا الاستدعاء يُقلقه, فأخذني جانبا و فتح قلبه لي قائلا:
- لماذا في نظرك, طلب الجنرال رؤيتي؟ هل تعتقد أنه يشك في كوني متورطا فيما حدث؟
حاولت ما أمكنني أن أطمئنه فأجبته:
-لو كان يشك في تورطك حقا في هذه القضية, لكنت الآن من بين المعتقلين. لا يتعلق الأمر إلا باستدعاء, فالجنرال أوفقير يرغب و لا شك في أخذ رأيك حول الوضع...
هز رأسه غير مقتنع تماما,فأضفت حينها:
- لكني أنصحك بأمر مهم, كيفما كانت نوعية الأسئلة التي يطرحها عليك, لا تكذب على الجنرال. فأنت تعلم أنه يملك الآن كافة السلطات. إذن ? فقل له الحقيقة كاملة حول ما تعرف و لا تُخفِ عنه شيئا بالإمكان أن يعرفه فيما بعد...
هز رأسه مرة أخرى, لكني لاحظت أنه لم يستوعب ما أردت قوله. و دون إبطاء أخذ الطريق نحو الرباط رفقة إثنين من ضباط الصف.
و في وقت الفطور, بنادي الضباط, رجع الليوتنان كولونيل. كنا جميعا متوترين باديي التعب بسبب السهر طيلة الليل, بيد أنه هو عاد منشرحا. و غابت عن وجهه تلك السحنة القلقة التي كانت تعلوه قبل بضع ساعات. و لأني أبديت استغرابي للأمر أخذني جانبا و روى لي تفاصيل لقائه مع الجنرال :
- أريد أن أحكي لك ما حصل و كيف حصل. حين وصولي هناك كان علي الانتظار طويلا قبل أن يستقبلني.لم أكن وحدي بل كنا كثيرين تم استدعاؤنا. حين حل دوري, استقبلني الجنرال,كان يمسك بيده اليسرى فنجان قهوة بينما وضع يده اليمنى على بندقية رشاشة فوق مكتبه. كان هناك حوالي عشرة من ضباط سلاح البر معه داخل القاعة. أمرني بالقول: « إجلس هنا أمامي...». و ما أن جلست حتى بادرني بسؤال مباشر عما إذا كنت على علم بأمر الانقلاب . أجبته بأني لم أكن أعرف شيئا. ثم سألني ثانيا:»ما هي علاقتك بالجنرال مدبوح؟» و هذا ما قلت له حرفيا «إنه من زوار القاعدة سيدي الجنرال.فهو يأتي لها لممارسة الغولف.و إذا كان يدعوني في أغلب الأحيان لمرافقته فلأنني انحدر من منطقة الريف مثله.ثم كي أكون صريحا معكم سيدي الجنرال, فإن مرافقة أصحاب الرتب العسكرية الأعلى يمنح قيمة مضافة.هذه هي العلاقة الوحيدة التي تربطني معه. و اعلموا ,سيدي الجنرال, أنه لو كنت أريد القيام بانقلاب لنظمته أنا نفسي. فأنتم تعلمون أني أتوفر على طائرات مقاتلة أسرع من الصوت, و على سلاح عالي التطور و على طاقم مؤهل و كفؤ...». و كما لو فُوجئ بما قلت له, ظل الجنرال صامتا بعض الوقت, ثم نهض فجأة و تقدم ليعانقني قائلا :»كن مطمئنا يا أمقران...بعض أصدقائك الطيارين الذين يحسدونك على مركزك يودون استغلال هذه الظروف لتصفيتك. فعليك أن تحذر منهم في المستقبل...لكني أعلم الآن بيقين تام أنك ضابط يحب وطنه. إعلم أنه انطلاقا من اللحظة فإنك أحد أعضاء قيادتي العليا. ستكون ذراعي الأيمن و إني أعينك مؤقتا مسؤولا عن قواتنا الجوية» و تصور أنه أخذ التلفون أمامي و اتصل بالملك نفسه لإبلاغه بذلك...هكذا مرت الأمور. ألا ترى أنني قد أحسنت صنعا؟...
لم أجد جوابا آنذاك. لكن الآن, و بالتفكير مليا في الأمر ,أفهم بأنه إذا كان الجنرال أوفقير قد نجاه ذلك اليوم و تصرف معه بذلك السلوك الودي, فلأن أمقران قدم له فكرة القيام بمحاولة انقلابية ثانية لحسابه الخاص...
الأربعاء 13 يوليوز 1971
في هذا اليوم,زارني الليوتنان الطويل في مكتبي.
بعد كل هذه الأحداث المتسارعة التي جرت, كان قلقا. أكد لي بأنه أصبح من الخطير,بالنيبة لنا, أن نسلح الطائرات المقاتلة بأمر شفوي من الليوتنان كولونيل أمقران و تحت ضغط ضباط ينتمون لأسلحة أخرى.
- سيدي القبطان ,قال لي, من اللازم أن نحمي أنفسنا, كي نتفادى تورطنا دون إرادة منا في قضية أخرى مماثلة.ينبغي بكل تأكيد التوصل إلى حل لهذا المشكل.
- كلامك معقول يا الطويل, قلت له, أعرف هذا تماما مثلك و فكرت فيه أيضا أنا نفسي...لقد منحني العقيد صلاحية كاملة لإعداد آليات احترازية جديدة, هاك إقرأ هذه الورقة و أعطني رأيك...
قدمت له المذكرة التي كنت قد أتممت تحريرها,في جطوطها العريضة, بخصوص التعليمات ?الداخلية و الخارجية- التي ينبغي أن تسري منذ الآن على مسطرة تسليح الطائرات المقاتلة.
قرأها باهتمام ثم قال لي:
-هذا جيد, هذا ما ينبغي اتباعه.هكذا على الأقل, سنصبح مرتاحين...
حتى تلك الآونة كانت المسطرة الجاري بها العمل هي التالية:
- رئيس الموارد العملياتية يحدد مهام اليوم و مسارات الطيران
- بعد ذلك يوجه الأمر لمكتب العمليات كي يعين الربابنة الذين ينبغي أن يكلفوا بهذه المهام, و يوزعها على كل واحد منهم بالتحديد.
- بالموازاة مع ذلك, يبلغ الضابط رئيس المدرج بتعليماته تلك.
- هذا الأخير يبلغ الأوامر إلى رئيس ورش التسليح كي يقوم بتسليح الطائرات.
-و بالموازاة يتم إرسال كناش الطائرات إلي كي أحدد أيا من الطائرات جاهزة و قادرة على القيام بالمهام المطلوبة.
أما المذكرة التي حررتها, فقد قمت فيها بتوصيف الجهاز الجديد الذي ينبغي أن يشرف على أي عملية تسليح للطائرات في مهمات القصف.
و هكذا لن تتم هذه العملية ابتداء من الآن إلا بطلب صريح نابع من مصلحة العمليات يشير إلى نوع المهمة التي ستقوم بها الطائرة, و نوع و كمية السلاح المطلوب للمهمة, و كذا عدد الطائرات المطلوبة. و طلبت بعد ذلك أن يكون الأمر ممهورا بإمضاء رئيس الموارد العملياتية و أن يمر عبر قيادة القاعدة, التي عليها أن تضع تأشيرة الموافقة عليها مع تأكيد القيادة العامة للقوات الملكية الجوية. و في نهاية هذه المسطرة , يمكن للأمر أن يوجه إلى رئيس الموارد التقنية, الذي هو أنا, للتنفيذ.
و حين أنهيت تحرير و تنقيح هذه المذكرة, قمت بتوجيه نسخة منها إلى العقيد أغيزول قائد القوات الملكية الجوية ,و أخرى للمكتب الثاني , و ذلك على سبيل الاحتياط. و حينها فقط بعثتها إلى مكتب الليوتنان كولونيل أمقران للموافقة و الأمر بالتنفيذ.
لكن, في البداية و عكس كل توقع, رفض هذا الأخير المصادقة عليها دون حتى أن يُعلمني بقراره أو بملاحظاته. فوجدتني حينها مضطرا إلى توقيعها أنا نفسي على مستواي فقط , أي مستوى الموارد التقنية, و توزيعها على مختلف المصالح المعنية:مصلحة العمليات, مصلحة أوراش التسليح و مصلحة المدرج.
و بعد ذلك بوقت قصير ,علمت أن مصلحة العمليات,رغبة منها في مواصلة تنظيم القيام بمهام القصف بمبادرتها الخاصة,رفضت رفضا قاطعا هذه التعليمات الجديدة.
و كان الكوماندان كويرة و القبطان العربي الطياران من بين الرافضين بقوة لتطبيق المذكرة. و حين جاءني كويرة مرة يسألني عن سبب رفضي تسليح الطائرات, أجبته بأني لا أرفض تسليحها لكني لن أفعل حتى يتم احترام جميع المراحل المنصوص عليها في المذكرة التي علقتها. استشاط كويرة غضبا, و توجه فورا للتشكي لدى الليوتنان كولونيل أمقران, قائلا له أن الوافي يرفض تسليح الطائرات...و هو ما دفع هذا الأخير إلى استدعائي إلى مكتبه حيث فسرت له الأسباب الوجيهة التي فرضت هذه المسطرة الجديدة. اقتنع الليوتنان كولونيل أمقران آنذاك بالمسوغات التي قدمتها و وافق على المصادقة على المذكرة و أمر بنشرها في كافة المصالح المعنية بالقاعدة الجوية.
بيد أن هذا الحادث كان سببا في تسميم علاقاتي بشكل جدي مع مصلحة العمليات. و اضطررت فيما بعد مرارا إلى التدخل لدى هذه المصلحة, من أجل تذكير الجميع بالمسطرة الجديدة السارية و التي ينبغي احترامها و تطبيقها حرفيا.
و قد فهمت ,فيما بعد, أسباب هذه المعارضة الشرسة للمذكرة التي حررتها, فقد كانت تشكل عائقا أمام المخطط الذي كان الليوتنان كولونيل أمقران و الكوماندان كويرة يقومان ببنائه تدريجيا, تحت رعاية الجنرال أوفقير:المحاولة الانقلابية الثانية,التي تم اتخاذ القرار للقيام بها و التي قد تلعب فيها طائراتنا «إف 5» دورا حاسما.
و بالفعل, و غداة إخفاق محاولة الصخيرات الانقلابية, تبرعمت في ذهن الجنرال و لدى بعض الضباط المؤمنين بتغيير النظام, فكرة محاولة ثانية يتولاها سلاح الجو مباشرة. و ليس لدي من دليل على ذلك سوى الزيارات المتكررة, خلال الشهور التالية, التي شرع الجنرال في القيام بها بانتظام للقاعدة, مُظهرا فجأة اهتماما خاصا و متزايدا لهذه الأخيرة, إن على مستوى عملها أو على مستوى مجموع العاملين بها.
و هكذا أصبحنا نراه كثيرا بالقاعدة, بشكل مباغت و غير رسمي في معظم الأحيان, معطيا بالموازاة مع ذلك وزنا أكبر لليوتنان كولونيل أمقران. و هذا ما أكد صدق ما نقله لي هذا الأخير, عقب لقائه مع الجنرال : «إعلم أنك منذ الآن ستصبح ذراعي الأيمن»...


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حكايات السعدنى الحلقة السادسة عن الجنرال المغربي محمد اوفقير

حكايات السعدنى الحلقة السادسة عن الجنرال المغربي محمد اوفقير