الأحد، 27 ديسمبر 2020

الملازم فضول صاحب مهمة فلورنسيا وملفاته السرية في عهد الحسن الثاني

 الملازم فضول صاحب مهمة فلورنسيا وملفاته السرية في عهد الحسن الثاني


بوريكات: الكولونيل فضول أطلع الحسن الثاني على وضعي الصحي
قال إن أفكار الانتقام سيطرت عليه بعد الخروج من تازمامارت
نشر في المساء يوم 12 - 06 - 2014

عندما اقتحمت عليه «المساء» خلوته في باريس، كان يسند رأسه إلى رأس شقيقه بايزيد، يتحاكيان ذكريات يختلط فيها المجد بالمرارة. فوق كرسي اعتراف «المساء»، حكى مدحت «René» بوريكات عن والده التونسي الذي تعلم مبادئ الاستخبارات في الأكاديمية العسكرية بإسطنبول، فقادته إلى الرباط؛ وعن والدته العلوية، قريبة محمد الخامس؛ وعن نشأته وإخوته في محيط القصر الملكي واحتكاكه بالأمراء.. يتذكر مدحت يوم بعثه والده في مهمة خاصة إلى محمد الخامس في فرنسا بعد عودته من المنفى.. ثم اشتغاله في موقع حساس في باريس جعله يتنصت على مكالمات الأمراء والوزراء.. إلى أن سمع ولي العهد يتحدث إلى طبيب والده عن المرض الذي تسبب في وفاة محمد الخامس، والتي يقول بوريكات أنْ «لا علاقة لها بالعملية التي أجريت له على الأنف». في «كرسي الاعتراف»، نتعرف مع مدحت «René» على محيط الملكين محمد الخامس والحسن الثاني، وعلى علاقة المال بالسياسة، وما يتخلل ذلك من دسائس القصور التي قادته، رفقة أخويه بايزيد وعلي، من قمة النعيم إلى متاهات الجحيم في تازمامارت، وجرجرت والدته وأخته بين دهاليز المعتقلات السرية. تفاصيل التفاصيل التي غابت عن كتابه «ميت حي - شهادات من الرباط 1973 إلى باريس 1992» يستحضرها مدحت بوريكات، الذي فقد 20 سنتيما من طوله خلال 20 سنة من الاعتقال، بقدرته المدهشة على الحكي الذي يجعله، يخرج من دور الضحية ليحاكم جلاده، بالسخرية منه طورا، وبالشفقة عليه طورا آخر.
- كيف قضيت أيامك العشرة في ثكنة أهرمومو التي نقلت إليها من تازمامارت؟
تكررت عملية فركي وتقشيري طيلة خمسة أيام متتالية. خلال هذه المدة استمات الدركيان، المكلفان بغسلي، في حربهما ضد الأوساخ التي تراكمت على جسدي والتصقت بجلدي بإمعان وإصرار.. كانا يستعملان في ذلك صابونا يطلق رائحة حمضية قوية. وبعد الخمسة أيام، استسلما أمام عناد الأوساخ التي فشلا في استئصال طبقاتها بعد أن أصبحت، مع توالي السنين، جزءا مني، فانسحبا. أذكر أن أحدهما قال لي: إذا كنت تريد أن ترى مجددا لون بشرتك الأصلي وتستمتع بالريح والشمس يداعبانها، فما عليك إلا أن تستمر لمدة طويلة في تقشير طبقات الأدران التي أصبحت جزءا منك.
- هل استعدت قدرتك على المشي على قدميك، بعد مدة من العلاج في أهرمومو؟
لقد أخضعني الأطباء لعدد هائل من الفحوص بالأشعة والتحاليل، وتم عرضي، طيلة أسبوع، على طبيب نفسي وطبيب عيون وأخصائي في علاج أمراض الصدر والتنفس، وعلى أطباء في تخصصات أخرى. لقد كان هؤلاء الأطباء يقولون، على سبيل طمأنتي: إن خروجك من تازمامارت هو الحياة نفسها، أما ما ترتب عن اعتقالك فيه من جروح وتعقيدات صحية فيمكن التغلب عليه. خلال عشرة أيام قضيتها في المركز الصحي لأهرمومو لم يزدد وزني، كل تلك الأطعمة التي كنت أبتلعها بشره كانت تمر عبر جسمي دون أن تتحول ولو إلى ذرة لحم أو شحم. وقد قال الطبيب إن «آلتي الغذائية» (Ma mécanique digestive) لاتزال تحت وقع النظام الذي خضعت له لسنوات في تازمامارت.
- هل استمر الكولونيل فضول، الذي قلت إنه كان مسؤولا عن تازمامارت، في زيارتك في غرفتك بأهرمومو؟
نعم، فضول كان يزورني يوميا، وقد أثار قلقَه كونُ وزني لم يكن يزداد. كان فضول أثناء كل زيارة يصطنع طريقة حميمية في الحديث إلي، كما لو كنا صديقين قديمين، فكنت تراه يخوض معي في عدة مواضيع عفا عنها الزمن، ثم يعود ليسألني عن أسباب اعتقالنا وسجننا طيلة تلك السنوات، ويطلب مني أن أحكي له كيف مرت مدة الاعتقال تلك. كان واضحا أنه يريد أن يعرف ما إذا كانت ذاكرتي تحتفظ بالمراحل المختلفة لاعتقالنا، من النقطة الثابتة «PF3» إلى كامب شخمان ثم إلى مقر القيادة العليا للدرك، كما كان يذكرني بأسماء وأماكن ليعرف خطورة ما سأحمله معي بعد الإفراج عني. ولأن سنوات الاعتقال جعلتني أحتاط من ظلي، فقد كنت أجيب بحذر شديد، ويبدو أن أجوبتي لم تكن تقنع فضول، لذلك قال لي: ستأنف المحادثة لاحقا بشكل أكثر، ملمحا إلى أنني قد أبقى لمدة في قبضته.

- هل كنت طيلة مدة اعتقالك بثكنة أهرمومو تتواصل مع شقيقيك بايزيد وعلي؟
لم تكن تصلني من علي وبايزيد سوى تحيات صباحية ينقلها إلي الدركي الذي يقدم إلي الطعام، فقد كان يطمئنني بكلام لا يخلو من كذب عن حالتهما الصحية. وذات ظهيرة، جاء دركيان وألبساني ملابس جديدة، ثم قيدا يدي وعصبا عيني، وانطلقنا مجددا في سفر آخر. فضول كان قد حضر قبلهما ببضع دقائق ووقع على ظرف بحضور الدكتور مبروك الذي كان مشرفا على رعايتنا صحيا طيلة مدة اعتقالنا. كان الظرف يحتوي على ملفي الصحي، الذي سيطلع عليه الملك. كان فضول يلمح إلى أن الملك يولي اهتماما خاصا لحالتي الصحية. لكني كنت مقتنعا بأنه يود في قرار نفسه أن يخبر الملك بأني لست في حالة تسمح له برؤيتي، وبأني سأشكل تشويشا على السمعة «المحترمة» للسجون المغربية (يضحك). حملوني على متن سيارة إسعاف، يرافقني طبيب ودركي، وتوجهوا بي نحو المستشفى العسكري بالرباط، الذي وصلنا إليه حوالي الساعة العاشرة مساء. ولأني تعودت على النظر من تحت عصابة العينين، فقد تعرفت على المكان بسرعة من خلال أرضيته. لقد شعرت بارتياح أكبر عندما علمت بأنني بين يدي الأطباء العسكريين، «سأخضع لإعادة أنسنة»، قلت في نفسي.
- هل زارك فضول هناك؟
(يضحك) طبعا، فلم يكن فضول ليحرم نفسه من عادته الممتعة المتمثلة في أن يكون أول وجه أراه كلما تغير محل «إقامتي». كان برفقتنا الطبيب مبروك، وكان يحمل ملفي الصحي الذي سلمه إلى شخص آخر يرتدي وزرة بيضاء. وقد دارت بين ثلاثتهم محادثة طويلة، قبل أن يشرع البروفيسور العسكري في فحصي وتفقد جسدي، وكان، وهو يتفقد جسدي كما لو كان جسد كائن فضائي مريض، يكرر أسئلة بليدة أجوبتُها موجودة سلفا في ملفي الصحي. ثم وقع وثيقة تسلمي. كنت جائعا كثيرا، فقد بقيت طيلة الظهيرة دون أكل، وعندما طلبت أن آكل تحقق طلبي في الحال، صحن سمك صول وسلطة وصحن سباكيتي، اقتسمت الوجبة مع الممرض الذي رافقني من مركز أهرمومو، وقد كان بدوره «ميتا من الجوع» فكان يلتهم مع حرصه على ألا يأكل أكثر مني. وفي حوالي الثانية عشرة ليلا، غادر فضول زنزانتي الجديدة، تاركا معي دركيين بزي مدني ليقوما بحراستي
.
- ما الذي كان يشغل بالك، إلى جانب استعادة عافيتك وقدرتك على المشي؟
كانت تنتابني أفكار انتقام، كانت الخطط والأفكار قد بدأت تعشش في رأسي.. الدليمي، الذي أشرف على إقبارنا في تازمامارت، قد مات؛ علمنا بذلك ونحن مسجونون، لكننا لم نعلم بأنه كان قد قُتِل، بعد أن علم الحسن الثاني بأنه يخطط لمؤامرة ضده. فكرت في أن الدليمي، على الأقل، حظي بجنازة رسمية، عكس أوفقير. كنت أفكر في الحسن الثاني، فهو المسؤول الأول عن مأساتنا، وقد كان لايزال على قيد الحياة، لكنني كنت أجتهد في إخفاء غضبي خوفا من يعيدني ظهوره إلى جحيم بالكاد غادرته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حكايات السعدنى الحلقة السادسة عن الجنرال المغربي محمد اوفقير

حكايات السعدنى الحلقة السادسة عن الجنرال المغربي محمد اوفقير